الفعل السياسي المشترك
صفحة 1 من اصل 1
الفعل السياسي المشترك
"ومَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ"[2]
توطئة:
إذ ترجمت المظاهرات والمسيرات التي انطلقت في الشارع الرمز في قلب العاصمة بالفعل الربيع الثوري العربي والتعددية السياسية والنقابية وتكرس التنافس الشديد بين القوى على السلطة وقيادة البلاد في هذه المرحلة الانتقالية. والغريب أن الصراع تحول بفعل فاعل قدير من رغبة في القطع مع الماضي الشمولي من طرف القوى الثورية الجديدة الصاعدة ومحاولتها كنس بقايا النظام السابق والقوى الملتفة على الثورة إلى استقطاب ايديولوجي حاد بين اليمين الديني والسياسي والرأسمالي من جهة واليسار العمالي والنقابي والحقوقي من الجهة المقابلة.
بيد أن الجديد عندنا هو الإعلان الافتراضي عن ميلاد نمط جديد من الحياة السياسية يتمثل في درب ثالث مختلف بين الهمجية والشمولية يضع على يمينه ماسكي الحكم الانتقاليين ودعاة تعطيل المسار والإجهاز على المكاسب الديمقراطية ويتباين هذا التوجه مع التحزب السياسوي الكلاسيكي ويسعى إلى تشييد حركة مجتمعية تونسية تجمع بين المسألة الوطنية والعروبة الجديدة والإسلام المستنير والإنسانية التقدمية وتسعى أن تكون ثمرة مجهود تنظيري أفرزته الثورة التونسية وتدعو فيه كل القوى النشطة والفاعلة في تونس إلى التوحد والانصهار في منظومة ثورية واحدة يكون هدفها هو التصدي إلى الارتداد والتبعية ومواجهة الامبريالية والمضي قدما في تفكيك الشمولية وذلك بتسديد النظر في العروبة إلى الهوية وتركيز الانتباه في الإسلام على الثورة والحب في الله والوطن وفرز قيمة الكرامة من الفلسفة الانسية والجنوح إلى الراديكالية على الصعيد السياسي واقتراح التعاونية كنمط للإنتاج الاقتصادي والحرص على بناء العروة الوثقى في الحقل الاجتماعي والتدريب على فضيلة الصداقة على المسرح الفكري وتربية الناشئة على الإتيقا التفاوضية والأخلاق التواصلية وعلى تدبير الكون بما يحفظ النسل ويحمي المعمور من الأرض من كل تصحر وتوحيد المقاومات في سبيل صيانة الحريات من كل اعتداء وفسح المجال للشباب والمرأة للتعبير عن ذواتهم والمساهمة الفعلية في ادارة الشأن العام والمشاركة الإبداعية في صناعة المستقبل.
والحق أن فشل النماذج السياسية الجاهزة وإفلاس النزعة المحافظة وتعثر التجارب الشمولية القصووية يطرح العديد من الإشكاليات الجدية حول مستقبل العمل السياسي وأهمية بناء أرضية مشتركة بين القوى المتنافسة تدور نقاطها الأساسية حول الإشكاليات التالية: هل من درب ثالث يمكن أن يؤلف بين احترام كرامة الإنسان واعتماد الديمقراطية المركبة بين السياسة والاجتماع والاقتصاد؟ وما السبيل الذي يمكن من الحد من الرأسمالية المتوحشة التي تحولت إلى عولمة جائرة محقت إنسانية الإنسان ودنست سيادة الأوطان وزيفت ارادة الشعوب؟ وكيف يمكن إيقاف الانحدار الذي تتبعه المجمعات الحديثة نحو هيمنة النزعة الفردية والرغبة في التملك وتفشي النزعة الأنانية؟ ألا ينبغي أن يشرع الفكر السياسي الذي يخصنا في معالجة المشكلات التي تمنع المجتمع من الانتقال إلى المدنية والتحضر وتحول دون إبداع نموذج محلي للديمقراطية يولد من رحم الثورة العربية؟ متى يبدع العقل العربي طرقا جديدة ومختلفة في التحديث والتطوير والتمدن ذات آفاق كونية؟ أليس المطلوب بالنسبة للفاعلين في هذا التوجه الثالث هو الحرص على مواصلة النضال من أجل إحراز تمام الحرية عوض الاكتفاء بتحسين شروط العبودية؟
ما نسعى إلى بلورته هو تفادي التنظم الهرمي الذي يعادي العقائد الصلبة للناس والثقافة الوطنية التي تحملها الجماهير والابتعاد عن التحزب التقليدي الذي يفضي إلى ممارسة سياسية عقيمة وجوفاء وإبداع شكل جديد من الفعل السياسي المشترك الذي يتميز بالبنائية المرنة والواقعية النقدية والالتزام الجدي.
1- الدواعي والمبررات:
" لا يتحقق التحرر الإنساني إلا حين يقر الإنسان قواه الخاصة بوصفها قوى اجتماعية وحين ينظمها”.[3]
لعل الانتباه إلى أهمية الفعل السياسي لم يكن وليد المرحلة الراهنة فقط بل هو تصميم قديم وفكرة متداولة في الفضاء العمومي منذ فترة الاستبداد وتم اختباره والتمرين عليه في العديد من المناسبات وتراوح مردوده بين النجاح النسبي والتفكك السريع ولكن الجديد هنا يتعلق بطبيعة المرحلة الحساسة والحاجة الوجودية إلى شكل من التدخل الجبهوي في الواقع والممارسة المرنة للبراكسيس الجماعي.
من هذا المنطلق حري بنا أن نعالج بتؤدة ومسؤولية الإحراجات الإتيقية التالية: إلى أين تمضي تونس بعد الثورة؟ وماذا ينتظرها؟ وكيف سيكون حالها؟ وهل المستقبل للإسلام السياسي أم أن النظام القديم يقدر على اعادة بناء ذاته في ثوب جديد؟ وكيف تضغط الموجة التحررية على المشهد السياسي في ظل تشرذم العائلة القومية وتفكك الأنظمة المحسوبة عليها وانتكاسة اليسار في طرحه الماركسي المشوه وتراجع أسهم الاشتراكية العربية ونموذج التأميم ورأسمالية الدولة في بورصة السياسة الدولية؟ ماذا يتوجب علينا فعله كناشطين وحقوقيين ومثقفين عضويين وثوار متمردين من أجل تنشيط الحياة السياسية الراكدة؟ متى يهجر ساسة هذا الزمان الآليات القديمة التي أثبتت فشلها ويبدعوا ميكانزمات غير معهودة؟ كيف يتمكن العرب اليوم من تقديم البدائل والمقترحات للخروج من عنق زجاجة الاستبداد والشمولية ويبدؤوا في صناعة السياسات الناجعة في عملية المواءمة بين الحريات الفردية ومنظومة المواطنة وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها وبين الانتماء إلى مدار الهوية والدين ومواكبة القيم الكونية ومعايير الحضارة العالمية؟ هل الدرب الثالث هو الديمقراطية الاجتماعية أم اشتراكية السوق؟ هل يقوم على التشارك أم على الإندماج؟ هل يقتضي تحرير المجتمع المدني عن المجتمع السياسي أم يتطلب دمقرطة السياسة العمومية؟ هل يفترض الجنوح نحو الليبرالية الاجتماعية للرد على دعاوي المحافظين الجدد والليبرالية التمامية؟ هل نضحي بالتنافس والتقدم والرخاء والرفاه في سبيل الالتزام بالعدالة الاجتماعية والمساواة القانونية؟ وكيف تقود الخصخصة واقتصاد السوق والملكية الخاصة الى التفاوت الطبقي وأزمات البطالة والفقر والبؤس الاجتماعي والهدر الحضاري؟ وهل معالجة الوضعية تقتضي اعتماد عدالة التوزيع أم تدفع إلى تحقيق التوازن بين القطاع الخاص والقطاع العام والمراوحة بين التشجيع على الاستثمار وإمساك الدولة بالمفاصل الحيوية للاقتصاد الوطني وتحكم المجموعة الوطنية في القطاعات الإستراتيجية؟ هل نتمسك بالدولة الأمة أم نطالب بدولة الرفاه؟ وهل تتخلى الدولة عن الحماية الاجتماعية لمؤسسات المجتمع المدني وتتحول الى دولة الرعاية أو العناية؟ ألا يتطلب الأمر استئناف حضاري ثان يستعيد البدء الحضاري الأول ويتجاوزه على نحو إبداعي مختلف؟ أليس التعويل على الطبقة الثائرة الصاعدة هو أقوم المسالك الممكنة للتوجه نحو صناعة المستقبل؟
2- المقترحات والبدائل:
"اعملوا مثل الأشجار التي تغير أوراقها وتحافظ على جذورها... غيروا أفكاركم اذن وحافظوا على مبادئكم"
ههنا ينصح باستبدال العقائد الايديولوجية والشعارات الرنانة والعموميات الفارغة والتخلي عن القطعية في الموقف وعن تبني الرؤية الضيقة والفكر الأحادي الجانب وادعاء الصواب المطلق والقيام بالتشخيص النقدي للعصر وتنسيب المعارف وتغيير زوايا النظر والقيام بالتحليل العلمي للواقع واعتماد الفهم الموضوعي والفكر النقدي والمنهجيات المتعددة والحوار بين المرجعيات وتبني النظرة الاستراتيجية التي ترتكز على التوجهات التالية:
- لا سياسة للحياة الجيدة دون تربية صالحة وأخلاق مروءة وعلم نافع وثلة من النفوس الجيدة والهمم المتحفزة والأفعال الارادية الصلبة.
- لا مساواة بين المجموعات ولا علاقة أفقية بين الأفراد دون تعادلية بين الجهات ودون تكاملية بين الرجل (ليس الذكر) والمرأة (ليست الأنثى) ودون اندماجية بين الخصوصيات وتكوين هوية مركبة.
- لا حماية للمجموعات الهشة دون مؤسسات عادلة ولا حكم شرعي دون العناية بالفئات الأقل حظا في المجتمع ومعالجة جذرية للأزمات الدائمة للمسألة الاجتماعية.
- لا حرية دون استقلالية شخصية ولا قانون دون قدرة على التحديد الذاتي ووعي بأهمية احترام التشريعات ويقظة الضمير.
- لا دولة عصرية دون عقل دولة وثقافة الأمم ودستور ثوري يعبر عن الرموز الحضارية للمجتمع والقيم الكونية التي طالب بها الشعب.
- لا حقوق دون مسؤولية: تعويض النزعة الفردية والتعويل على الذات في التعليم والصحة والسكن والتعليم والشغل والحياة بتحميل الدولة المسؤولية تجاه مواطنيها المعرضين للخطر.
- لا سلطة دون ديمقراطية: تتأسس الديمقراطية على تقاسم السلطة والمشاركة من قبل الأفراد في ادارة الشأن العام ويتمتع المواطنون بالفاعلية وتبلغ قدرتهم على الأداء درجة الاتقان. وبالتالي ان الديمقراطية المركبة وليست النزعة الفردية هي أساس اقامة السلطة ومصدر اضفاء الشرعية.
- لا سيادة للدولة دون إلغاء للمديونية ودون التعويل على الذات ولا تجسيم للإرادة الشعبية دون انجاز اجماع وطني على استحقاقات المرحلة القادمة وبناء علاقة ندية مع الخارج.
- لا وحدة للحق على الصعيد العملي إلا بتعدد الحق على الصعيد النظري ولا علم نقدي بالواقع إلا باتخاذ موقف موحد من قضايا المجتمع والالتزام بالرد على مشاكل العصر.
- لا تعددية دون حق الاختلاف ودون الاعتراف بالتنوع: لعل الطريق الممكن نحو توسيع وتعميق الديمقراطية وتهيئة المجتمع الأهلي هو تنمية الاقتصاد المختلط الذي يقوم على التكامل والوظيفية بين الصناعات والحرف والمهن والاختصاصات والمراوحة بين الانفتاح المتبصر على الخارج والاندماج بين القوى المكونة للداخل بتقوية الأنساق الاجتماعية واحترام الرموز الثقافية.
- لا صلح ولا اعتراف ولا مساومة: دور السياسي هو تحيين التمييز بين الصديق والعدو والعمل على توسيع دائرة الأصدقاء والتقليل من دائرة الأعداء وضبط السياسات وفق مصلحة الأمة والثوابت المبدئية التي يناضل من أجلها الشعب وليس بمراعاة مصلحة الطبقة الحاكمة والمحافظة عليها.
- لا ديمقراطية دون تداولية ودون قيادة جماعية: إن الدرب الثالث هو جزء من المجتمع وانعكاس لدرجة تطوره الديمقراطي والمعرفي ووعيه الثوري، ولكن لابد من عملية تحديث ذاتية فعلية، ودمقرطة وشفافية على مختلف المستويات الفكرية والتنظيمية. كما يجب تغيير وتجديد الأنظمة الداخلية لمؤسساتنا السياسية، بحيث توفر المزيد من الديمقراطية، وتحسن من فرص القيادة الجماعية وتضمن مبدأ التداولية على أساس الرصيد النضالي والجدارة الميدانية والاقتدار الوظيفي.[4]
- لا تغيير اجتماعي دون تثوير للذهنيات وإحداث طفرة ثقافية وإعادة بناء للعلوم الأصيلة، ولا بناء لكتلة تاريخية ممانعة وعروة وثقى جامعة دون تفكيك لثلاثية العقل السياسي العربي: العقيدة والغنيمة والقبيلة واعتماد نماذج عضوية مركبة.
نتنهي إلى أن الإنسان هو أصل المدينة وغاية العمران البشري وسبب التعمير ووسيلة التدبير وأنه يجب ألا يحب لغيره ما لا يحبه لنفسه وأن يحكم بالعدل لا بالهوى وأن يعطي لكل واحد ما له حسب الجدارة والأهلية والمساهمة ويريد الحق للحق ويقيم العدل للعدالة. لكن كيف ننزل بالفضائل التي ينبغي أن يتصف بها الحاكم من قمة الهرم السياسي إلى قاعدته مثلما ننزل بسلطة القرار من القصر إلى الشارع؟
3- آداب الناشط السياسي:
"لا يستطيع أحد منع الشمس من الطلوع غدا ولا أحد يستطيع أن يحجب عن عينيه النور"
بالنظر إلى الصعوبات التي تواجه العمل السياسي والمخاطر التي تترصد الناشط المتدخل في الشأن العام والرحلة إلى المجهول التي يتحرك في اتجاهها الملتزم بقضايا وطنه فإنه يجدر به أن يتحلى بجملة من الآداب والخصال والمقاومات حتى يقلل من نسبة الأخطاء ويلم على قدر الامكان بالكليات الضرورية والتفاصيل الدقيقة لشروط الفعل السياسي الحصيف ويوفر فرص النجاح للتجربة المشتركة يمكن أن نذكر منها ما يلي:
- أن يكون منكرا للذات معرضا عنها ومؤثرا لغيره وموقرا للكبير ومتواضعا مع الصغير وراغبا في رفع راية أمته وتحقيق مصلحة وطنه.
- أن يكون محبا للصدق وشاهدا على الحق كارها للكذب وبعيدا عن العنف ومترويا في مطلبه.
- أن يكون محبا للعلم ومجلا لأهله وميالا إلى الدراسة والتحصيل من أجل ادراك التمييز بنفسه بين الحسن والقبيح والجيد والرديء.
- أن يجمع بين الفضائل النظرية والفضائل العملية ويؤلف بين العلم الحق والعمل الحق، ويجعل الوسائل التي يختارها من جنس الأهداف التي يرنو إلى تحقيقها.
- أن يكون بليغا حسن العبارة جيد الحفظ وقوي الذاكرة ولا ينسى ما يفهمه ويدركه وغير مستبد برأيه مشاورا لغيره.
- أن يكون متعقلا جيد الفطنة ومحبا للحوار العلمي والجدل العقلي وقادرا على اقتناص الحد الأوسط بأيسر ما يمكنه.
- أن يكون كبير النفس غير محب للجاه والشهرة والمنفعة والمال وقادر على امساك نفسه عن الهوى وصبورا عند المحن وكاتما للسر ومحافظا على العهد ووفيا بالوعد.
- أن يكون قوي الشكيمة وسديد الرأي لا يتخذ قرارا عندما يكون غاضبا ولا يعطي وعدا عندما يكون سعيدا.
- أن يكون شجاعا جسورا مغامرا مقداما بعيدا عن الجبن والعجز والضعف من جهة وعن التهور والمروق والتعلق بالأوهام من جهة أخرى.
- أن يكون كل واحد هو الملاح الحاذق المؤهل لقيادة دفة السفينة ووضع الشرائع وتأسيس الدستور الملائم لتنظيم شؤون المدينة والرجل المتبوع في أفعاله والذي يؤتم به.
- أن ينهج بمليء عزيمته نحو كل شيء خير وجميل بذاته مثل العدل بعد أن تتمرس قوى نفسه بمحبة كل ماهو عقلي.[5]
لكن ما هي المطبات التي يجب ان يحذر منها الفاعل السياسي حتى يتفادى الهزيمة والإيديولوجيا المهزومة ويتحرر من ميراث النكبة والنكسة والثورات المغدورة؟
4- التحديات والمحاذير:
"لماذا يناضل الناس من أجل عبوديتهم كما لو تعلق الأمر بخلاصهم؟...لماذا يتحمل الناس منذ قرون الاستغلال والإذلال والاستعباد إلى الدرجة التي يصبحون فيها طلابا لها لا فقط للآخرين بل لأنفسهم؟"[6]
والحق أن رغبة جميع الناس في أن يكونوا حكاما هو أمر محال إذ من الضروري أن يكون هناك حكام وهناك من يقبل بحكمهم ولكن لما كان من المستحيل أن يكون جميع الناس حكاما وأن يجمع الحاكم كل الكمالات وأن تجتمع فيه كل صفات الإنسانية وأن يكتفي بتحقيق كمالا واحدا جزئيا كان من اللازم أن يحكم كل واحد نفسه بنفسه وأن تتوسع دائرة المشاركة بحيث يصير الإنسان سيد نفسه ويقدر الشعب على تقرير مصيره بنفسه وتوجب أيضا أن يكون الحكم تشاوريا والقيادة جماعية وأن تنتفي العلاقة الهرمية بين من هم أعلى ومن هم أدنى.
المشكلة أن المعركة مع أصنام الإقطاع والكهنوت والحكم المطلق وسطوة التقاليد لم تحسم بعد ولم تنتصر الحداثة في ربوعنا على الماضي الحاضر وإنما تمت اضافة أصنام جديدة هي العولمة المتوحشة وعقيدة السوق والدولة الشمولية وإخطبوط الحزب الواحد وهمجية الحل الحربي للقضايا الخلافية ومرض عسكرة الحياة السياسية ومهننة النشاط السياسي وتحويله إلى مقاولات للسمسرة والمتجارة بآلام الناس وما ينتج عن ذلك من كذب ونفاق.
الاشتباه الثالث يتمثل في اظهار بعض الناشطين الرغبة الجامحة في الزعامة وبلوغ المناصب واحتلال الكراسي الفارغة والبحث عن الحصول على السلطة السياسية بكل الطرق وحرق المراحل وإتباع وسائل ميكيافيلية غير بريئة وغير مبدئية والتضحية بالمشروع الحضاري في سبيل تحقيق مآرب شخصية ومنافع مادية ضيقة.
غني عن البيان أن الانتصار الى الحرية والعدالة والكرامة ونظافة الأيدي والطهارة الأخلاقية والنقاء الثوري قد لا يكفي للخروج من هذا المثلث المرعب: الماضي الرافض للاندثار والحاضر الممتنع عن البروز والمستقبل الموصد أمام العقل الاستشرافي. فما العمل يا ترى الآن وهنا ؟ وهل يقدر العقل العربي للرد على هذه التحديات؟ وما السبيل إلى رغم الغمة عن الأمة والتخلص من هشاشة عظام الجسد الديمقراطي في الوطن العربي؟
خاتمة:
"لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "[7]
إن الصالح العام المشترك والعروة الوثقى للجماعة السياسية تقوم على المقاومات التالية:
- لا تشكل الذات هويتها ولا تتمكن من الفعل السياسي الحصيف إلا داخل بنية عقلانية تغلب أبعاد الحوار والاختلاف والتعددية على أبعاد التطابق والمماثلة والتشابه.
- عدم اختزال السياسي في الاقتصادي وفي ممارسة السلطة والكف عن اعطاء أولوية للحساب والفعالية ومعارضة العقلنة الاجتماعية والاقتصادية بالعقلنة السياسية والحكمة العملية والاحتماء بالنوايا الطيبة والأخلاق الحية والقصد السليم.
- تعميم مبدأ الفعل المنتج والعمل الخلاق واحترام الإنسانية في جدلية الذات والغير وإقامة نسق من الغايات يكون فيه أعضائه هم في الآن نفسه المشرعون.
- لقد قامت الثورة بتحرير الذات من أسر الاستبداد وفك الوصاية المضروبة على الشعب وذلك بإعادة العالم الإنساني والعلاقات الإنسانية الى الإنسان ذاته.
- فعل الحكم ليس محصورا في بؤرة القانوني وحرم المحاكم ودائرة القضائي وإنما يستدعي الكلي السياسي الذي يوائم بين التفكير والرغبة وبين الذوقي والغائي.
- معنى العدالة لا يمكن ان يكون مستقلا عن مرجعية الخير بل يرتبط بالتوزيع العادل ويقتضي رفع النصيب الأدنى لتحقيق المنفعة المساوية للجميع وبالتالي يجب توفير الشروط الثقافية والسياسية في المجتمع الديمقراطي من اجل ممارسة العدالة.
- قيمة المواطنة لا تقبل القسمة وتشير الى طرائق الانتساب الى الهيئات السياسية وتمني حياة راضية في مؤسسات عادلة وتعيين الذات بوصفها قادرة على الفعل وتحمل المسؤولية في كل حالة.
- مساهمة الذات في الحياة المشتركة يجب ان تكون فعلية وكاملة وتجمع بين المقدرة على الفعل والمساهمة في الحكم والتنفيذ العملي والتمتع بالحقوق وتمتين الرابط الاجتماعي وتحسين الطابع التعاوني للممارسات العملية.[8]
- النظر الى الدين على انه اعادة الحرية الى الإنسان ودحر العبودية والظلم والاغتراب وإعادة سيطرة مبدأ الخير والتغلب على الشر.
- تطوير مفهوم الكتلة التاريخية والعمل على مقاومة اللاعدالة الفاضحة واللاتسامح الديني والتمييز العنصري والعنف السياسي بتوزيع المعرفة والثروة والسلطة بالإنصاف والتحلي بالسلم والعفو والقيام بالعقلنة المتدرجة للقناعات الفردية والتنوير البطيء للذهنايت الجماعية والتسوية المتبادلة بين الاقتناع والنظرية وإدارة الصراع والإبقاء على التنوع و تقوية أساليب الفعل السياسي المشترك.
لكن السؤال الذي يطرح هاهنا هو: كيف نتمكن من تحديد الخط الفاصل بين الصديق والعدو ؟ وماهو الثمن ندفعه من التعلم الشاق من صراعات دائمة ذات طابع كلي؟ وهل يتمكن مواطنو هذا الزمان من بناء قواعد متينة للعيش السياسي السوي ويحولون الثورة العربية الى ثروة حضارية؟ ومتى يعلم الملتفون أن للثورة فاعلين يحمونها؟
*******
المراجع:
القرآن الكريم
ابن رشد، تلخيص السياسة، نقله الى العربية حسن مجيد العبيدي وفاطمة كاظم الذهبي، دار الطليعة، بيروت، 1998.
أنتوني جدنز، الطريق الثالث، تجديد الديمقراطية الاجتماعية، ترجمة أحمد زايد، محمد محي الدين، محمد الجوهري، المجلس الأعلى للثقافة، 1999.
بول ريكور، الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2005.
كارل ماركس، المسألة اليهودية، ترجمة نائلة الصالحي،منشورات الجمل، كولونيا، 2003.
Gille Deleuze, Félix Guattari, Capitalisme et Schizophrénie, T1, Edition de Minuit, 1972.
******
الهوامش
[1]Agir en commun
[2] القرآن الكريم، سورة لقمان، الآية 22
[3] كارل ماركس، المسألة اليهودية، ترجمة نائلة الصالحي،منشورات الجمل، كولونيا، 2003، ص.50.
[4] أنتوني جدنز، الطريق الثالث، تجديد الديمقراطية الاجتماعية، ترجمة أحمد زايد، محمد محي الدين، محمد الجوهري، المجلس الأعلى للثقافة، 1999.
[5] ابن رشد، تلخيص السياسة، نقله الى العربية حسن مجيد العبيدي وفاطمة كاظم الذهبي، دار الطليعة، بيروت، 1998.ص.ص.140- 141,
[6]Gille Deleuze, Félix Guattari, Capitalisme et Schizophrénie, T1, Edition de Minuit, 1972, p.37 .
[7] القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 256
[8] بول ريكور، الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2005. ص، 353.
توطئة:
إذ ترجمت المظاهرات والمسيرات التي انطلقت في الشارع الرمز في قلب العاصمة بالفعل الربيع الثوري العربي والتعددية السياسية والنقابية وتكرس التنافس الشديد بين القوى على السلطة وقيادة البلاد في هذه المرحلة الانتقالية. والغريب أن الصراع تحول بفعل فاعل قدير من رغبة في القطع مع الماضي الشمولي من طرف القوى الثورية الجديدة الصاعدة ومحاولتها كنس بقايا النظام السابق والقوى الملتفة على الثورة إلى استقطاب ايديولوجي حاد بين اليمين الديني والسياسي والرأسمالي من جهة واليسار العمالي والنقابي والحقوقي من الجهة المقابلة.
بيد أن الجديد عندنا هو الإعلان الافتراضي عن ميلاد نمط جديد من الحياة السياسية يتمثل في درب ثالث مختلف بين الهمجية والشمولية يضع على يمينه ماسكي الحكم الانتقاليين ودعاة تعطيل المسار والإجهاز على المكاسب الديمقراطية ويتباين هذا التوجه مع التحزب السياسوي الكلاسيكي ويسعى إلى تشييد حركة مجتمعية تونسية تجمع بين المسألة الوطنية والعروبة الجديدة والإسلام المستنير والإنسانية التقدمية وتسعى أن تكون ثمرة مجهود تنظيري أفرزته الثورة التونسية وتدعو فيه كل القوى النشطة والفاعلة في تونس إلى التوحد والانصهار في منظومة ثورية واحدة يكون هدفها هو التصدي إلى الارتداد والتبعية ومواجهة الامبريالية والمضي قدما في تفكيك الشمولية وذلك بتسديد النظر في العروبة إلى الهوية وتركيز الانتباه في الإسلام على الثورة والحب في الله والوطن وفرز قيمة الكرامة من الفلسفة الانسية والجنوح إلى الراديكالية على الصعيد السياسي واقتراح التعاونية كنمط للإنتاج الاقتصادي والحرص على بناء العروة الوثقى في الحقل الاجتماعي والتدريب على فضيلة الصداقة على المسرح الفكري وتربية الناشئة على الإتيقا التفاوضية والأخلاق التواصلية وعلى تدبير الكون بما يحفظ النسل ويحمي المعمور من الأرض من كل تصحر وتوحيد المقاومات في سبيل صيانة الحريات من كل اعتداء وفسح المجال للشباب والمرأة للتعبير عن ذواتهم والمساهمة الفعلية في ادارة الشأن العام والمشاركة الإبداعية في صناعة المستقبل.
والحق أن فشل النماذج السياسية الجاهزة وإفلاس النزعة المحافظة وتعثر التجارب الشمولية القصووية يطرح العديد من الإشكاليات الجدية حول مستقبل العمل السياسي وأهمية بناء أرضية مشتركة بين القوى المتنافسة تدور نقاطها الأساسية حول الإشكاليات التالية: هل من درب ثالث يمكن أن يؤلف بين احترام كرامة الإنسان واعتماد الديمقراطية المركبة بين السياسة والاجتماع والاقتصاد؟ وما السبيل الذي يمكن من الحد من الرأسمالية المتوحشة التي تحولت إلى عولمة جائرة محقت إنسانية الإنسان ودنست سيادة الأوطان وزيفت ارادة الشعوب؟ وكيف يمكن إيقاف الانحدار الذي تتبعه المجمعات الحديثة نحو هيمنة النزعة الفردية والرغبة في التملك وتفشي النزعة الأنانية؟ ألا ينبغي أن يشرع الفكر السياسي الذي يخصنا في معالجة المشكلات التي تمنع المجتمع من الانتقال إلى المدنية والتحضر وتحول دون إبداع نموذج محلي للديمقراطية يولد من رحم الثورة العربية؟ متى يبدع العقل العربي طرقا جديدة ومختلفة في التحديث والتطوير والتمدن ذات آفاق كونية؟ أليس المطلوب بالنسبة للفاعلين في هذا التوجه الثالث هو الحرص على مواصلة النضال من أجل إحراز تمام الحرية عوض الاكتفاء بتحسين شروط العبودية؟
ما نسعى إلى بلورته هو تفادي التنظم الهرمي الذي يعادي العقائد الصلبة للناس والثقافة الوطنية التي تحملها الجماهير والابتعاد عن التحزب التقليدي الذي يفضي إلى ممارسة سياسية عقيمة وجوفاء وإبداع شكل جديد من الفعل السياسي المشترك الذي يتميز بالبنائية المرنة والواقعية النقدية والالتزام الجدي.
1- الدواعي والمبررات:
" لا يتحقق التحرر الإنساني إلا حين يقر الإنسان قواه الخاصة بوصفها قوى اجتماعية وحين ينظمها”.[3]
لعل الانتباه إلى أهمية الفعل السياسي لم يكن وليد المرحلة الراهنة فقط بل هو تصميم قديم وفكرة متداولة في الفضاء العمومي منذ فترة الاستبداد وتم اختباره والتمرين عليه في العديد من المناسبات وتراوح مردوده بين النجاح النسبي والتفكك السريع ولكن الجديد هنا يتعلق بطبيعة المرحلة الحساسة والحاجة الوجودية إلى شكل من التدخل الجبهوي في الواقع والممارسة المرنة للبراكسيس الجماعي.
من هذا المنطلق حري بنا أن نعالج بتؤدة ومسؤولية الإحراجات الإتيقية التالية: إلى أين تمضي تونس بعد الثورة؟ وماذا ينتظرها؟ وكيف سيكون حالها؟ وهل المستقبل للإسلام السياسي أم أن النظام القديم يقدر على اعادة بناء ذاته في ثوب جديد؟ وكيف تضغط الموجة التحررية على المشهد السياسي في ظل تشرذم العائلة القومية وتفكك الأنظمة المحسوبة عليها وانتكاسة اليسار في طرحه الماركسي المشوه وتراجع أسهم الاشتراكية العربية ونموذج التأميم ورأسمالية الدولة في بورصة السياسة الدولية؟ ماذا يتوجب علينا فعله كناشطين وحقوقيين ومثقفين عضويين وثوار متمردين من أجل تنشيط الحياة السياسية الراكدة؟ متى يهجر ساسة هذا الزمان الآليات القديمة التي أثبتت فشلها ويبدعوا ميكانزمات غير معهودة؟ كيف يتمكن العرب اليوم من تقديم البدائل والمقترحات للخروج من عنق زجاجة الاستبداد والشمولية ويبدؤوا في صناعة السياسات الناجعة في عملية المواءمة بين الحريات الفردية ومنظومة المواطنة وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها وبين الانتماء إلى مدار الهوية والدين ومواكبة القيم الكونية ومعايير الحضارة العالمية؟ هل الدرب الثالث هو الديمقراطية الاجتماعية أم اشتراكية السوق؟ هل يقوم على التشارك أم على الإندماج؟ هل يقتضي تحرير المجتمع المدني عن المجتمع السياسي أم يتطلب دمقرطة السياسة العمومية؟ هل يفترض الجنوح نحو الليبرالية الاجتماعية للرد على دعاوي المحافظين الجدد والليبرالية التمامية؟ هل نضحي بالتنافس والتقدم والرخاء والرفاه في سبيل الالتزام بالعدالة الاجتماعية والمساواة القانونية؟ وكيف تقود الخصخصة واقتصاد السوق والملكية الخاصة الى التفاوت الطبقي وأزمات البطالة والفقر والبؤس الاجتماعي والهدر الحضاري؟ وهل معالجة الوضعية تقتضي اعتماد عدالة التوزيع أم تدفع إلى تحقيق التوازن بين القطاع الخاص والقطاع العام والمراوحة بين التشجيع على الاستثمار وإمساك الدولة بالمفاصل الحيوية للاقتصاد الوطني وتحكم المجموعة الوطنية في القطاعات الإستراتيجية؟ هل نتمسك بالدولة الأمة أم نطالب بدولة الرفاه؟ وهل تتخلى الدولة عن الحماية الاجتماعية لمؤسسات المجتمع المدني وتتحول الى دولة الرعاية أو العناية؟ ألا يتطلب الأمر استئناف حضاري ثان يستعيد البدء الحضاري الأول ويتجاوزه على نحو إبداعي مختلف؟ أليس التعويل على الطبقة الثائرة الصاعدة هو أقوم المسالك الممكنة للتوجه نحو صناعة المستقبل؟
2- المقترحات والبدائل:
"اعملوا مثل الأشجار التي تغير أوراقها وتحافظ على جذورها... غيروا أفكاركم اذن وحافظوا على مبادئكم"
ههنا ينصح باستبدال العقائد الايديولوجية والشعارات الرنانة والعموميات الفارغة والتخلي عن القطعية في الموقف وعن تبني الرؤية الضيقة والفكر الأحادي الجانب وادعاء الصواب المطلق والقيام بالتشخيص النقدي للعصر وتنسيب المعارف وتغيير زوايا النظر والقيام بالتحليل العلمي للواقع واعتماد الفهم الموضوعي والفكر النقدي والمنهجيات المتعددة والحوار بين المرجعيات وتبني النظرة الاستراتيجية التي ترتكز على التوجهات التالية:
- لا سياسة للحياة الجيدة دون تربية صالحة وأخلاق مروءة وعلم نافع وثلة من النفوس الجيدة والهمم المتحفزة والأفعال الارادية الصلبة.
- لا مساواة بين المجموعات ولا علاقة أفقية بين الأفراد دون تعادلية بين الجهات ودون تكاملية بين الرجل (ليس الذكر) والمرأة (ليست الأنثى) ودون اندماجية بين الخصوصيات وتكوين هوية مركبة.
- لا حماية للمجموعات الهشة دون مؤسسات عادلة ولا حكم شرعي دون العناية بالفئات الأقل حظا في المجتمع ومعالجة جذرية للأزمات الدائمة للمسألة الاجتماعية.
- لا حرية دون استقلالية شخصية ولا قانون دون قدرة على التحديد الذاتي ووعي بأهمية احترام التشريعات ويقظة الضمير.
- لا دولة عصرية دون عقل دولة وثقافة الأمم ودستور ثوري يعبر عن الرموز الحضارية للمجتمع والقيم الكونية التي طالب بها الشعب.
- لا حقوق دون مسؤولية: تعويض النزعة الفردية والتعويل على الذات في التعليم والصحة والسكن والتعليم والشغل والحياة بتحميل الدولة المسؤولية تجاه مواطنيها المعرضين للخطر.
- لا سلطة دون ديمقراطية: تتأسس الديمقراطية على تقاسم السلطة والمشاركة من قبل الأفراد في ادارة الشأن العام ويتمتع المواطنون بالفاعلية وتبلغ قدرتهم على الأداء درجة الاتقان. وبالتالي ان الديمقراطية المركبة وليست النزعة الفردية هي أساس اقامة السلطة ومصدر اضفاء الشرعية.
- لا سيادة للدولة دون إلغاء للمديونية ودون التعويل على الذات ولا تجسيم للإرادة الشعبية دون انجاز اجماع وطني على استحقاقات المرحلة القادمة وبناء علاقة ندية مع الخارج.
- لا وحدة للحق على الصعيد العملي إلا بتعدد الحق على الصعيد النظري ولا علم نقدي بالواقع إلا باتخاذ موقف موحد من قضايا المجتمع والالتزام بالرد على مشاكل العصر.
- لا تعددية دون حق الاختلاف ودون الاعتراف بالتنوع: لعل الطريق الممكن نحو توسيع وتعميق الديمقراطية وتهيئة المجتمع الأهلي هو تنمية الاقتصاد المختلط الذي يقوم على التكامل والوظيفية بين الصناعات والحرف والمهن والاختصاصات والمراوحة بين الانفتاح المتبصر على الخارج والاندماج بين القوى المكونة للداخل بتقوية الأنساق الاجتماعية واحترام الرموز الثقافية.
- لا صلح ولا اعتراف ولا مساومة: دور السياسي هو تحيين التمييز بين الصديق والعدو والعمل على توسيع دائرة الأصدقاء والتقليل من دائرة الأعداء وضبط السياسات وفق مصلحة الأمة والثوابت المبدئية التي يناضل من أجلها الشعب وليس بمراعاة مصلحة الطبقة الحاكمة والمحافظة عليها.
- لا ديمقراطية دون تداولية ودون قيادة جماعية: إن الدرب الثالث هو جزء من المجتمع وانعكاس لدرجة تطوره الديمقراطي والمعرفي ووعيه الثوري، ولكن لابد من عملية تحديث ذاتية فعلية، ودمقرطة وشفافية على مختلف المستويات الفكرية والتنظيمية. كما يجب تغيير وتجديد الأنظمة الداخلية لمؤسساتنا السياسية، بحيث توفر المزيد من الديمقراطية، وتحسن من فرص القيادة الجماعية وتضمن مبدأ التداولية على أساس الرصيد النضالي والجدارة الميدانية والاقتدار الوظيفي.[4]
- لا تغيير اجتماعي دون تثوير للذهنيات وإحداث طفرة ثقافية وإعادة بناء للعلوم الأصيلة، ولا بناء لكتلة تاريخية ممانعة وعروة وثقى جامعة دون تفكيك لثلاثية العقل السياسي العربي: العقيدة والغنيمة والقبيلة واعتماد نماذج عضوية مركبة.
نتنهي إلى أن الإنسان هو أصل المدينة وغاية العمران البشري وسبب التعمير ووسيلة التدبير وأنه يجب ألا يحب لغيره ما لا يحبه لنفسه وأن يحكم بالعدل لا بالهوى وأن يعطي لكل واحد ما له حسب الجدارة والأهلية والمساهمة ويريد الحق للحق ويقيم العدل للعدالة. لكن كيف ننزل بالفضائل التي ينبغي أن يتصف بها الحاكم من قمة الهرم السياسي إلى قاعدته مثلما ننزل بسلطة القرار من القصر إلى الشارع؟
3- آداب الناشط السياسي:
"لا يستطيع أحد منع الشمس من الطلوع غدا ولا أحد يستطيع أن يحجب عن عينيه النور"
بالنظر إلى الصعوبات التي تواجه العمل السياسي والمخاطر التي تترصد الناشط المتدخل في الشأن العام والرحلة إلى المجهول التي يتحرك في اتجاهها الملتزم بقضايا وطنه فإنه يجدر به أن يتحلى بجملة من الآداب والخصال والمقاومات حتى يقلل من نسبة الأخطاء ويلم على قدر الامكان بالكليات الضرورية والتفاصيل الدقيقة لشروط الفعل السياسي الحصيف ويوفر فرص النجاح للتجربة المشتركة يمكن أن نذكر منها ما يلي:
- أن يكون منكرا للذات معرضا عنها ومؤثرا لغيره وموقرا للكبير ومتواضعا مع الصغير وراغبا في رفع راية أمته وتحقيق مصلحة وطنه.
- أن يكون محبا للصدق وشاهدا على الحق كارها للكذب وبعيدا عن العنف ومترويا في مطلبه.
- أن يكون محبا للعلم ومجلا لأهله وميالا إلى الدراسة والتحصيل من أجل ادراك التمييز بنفسه بين الحسن والقبيح والجيد والرديء.
- أن يجمع بين الفضائل النظرية والفضائل العملية ويؤلف بين العلم الحق والعمل الحق، ويجعل الوسائل التي يختارها من جنس الأهداف التي يرنو إلى تحقيقها.
- أن يكون بليغا حسن العبارة جيد الحفظ وقوي الذاكرة ولا ينسى ما يفهمه ويدركه وغير مستبد برأيه مشاورا لغيره.
- أن يكون متعقلا جيد الفطنة ومحبا للحوار العلمي والجدل العقلي وقادرا على اقتناص الحد الأوسط بأيسر ما يمكنه.
- أن يكون كبير النفس غير محب للجاه والشهرة والمنفعة والمال وقادر على امساك نفسه عن الهوى وصبورا عند المحن وكاتما للسر ومحافظا على العهد ووفيا بالوعد.
- أن يكون قوي الشكيمة وسديد الرأي لا يتخذ قرارا عندما يكون غاضبا ولا يعطي وعدا عندما يكون سعيدا.
- أن يكون شجاعا جسورا مغامرا مقداما بعيدا عن الجبن والعجز والضعف من جهة وعن التهور والمروق والتعلق بالأوهام من جهة أخرى.
- أن يكون كل واحد هو الملاح الحاذق المؤهل لقيادة دفة السفينة ووضع الشرائع وتأسيس الدستور الملائم لتنظيم شؤون المدينة والرجل المتبوع في أفعاله والذي يؤتم به.
- أن ينهج بمليء عزيمته نحو كل شيء خير وجميل بذاته مثل العدل بعد أن تتمرس قوى نفسه بمحبة كل ماهو عقلي.[5]
لكن ما هي المطبات التي يجب ان يحذر منها الفاعل السياسي حتى يتفادى الهزيمة والإيديولوجيا المهزومة ويتحرر من ميراث النكبة والنكسة والثورات المغدورة؟
4- التحديات والمحاذير:
"لماذا يناضل الناس من أجل عبوديتهم كما لو تعلق الأمر بخلاصهم؟...لماذا يتحمل الناس منذ قرون الاستغلال والإذلال والاستعباد إلى الدرجة التي يصبحون فيها طلابا لها لا فقط للآخرين بل لأنفسهم؟"[6]
والحق أن رغبة جميع الناس في أن يكونوا حكاما هو أمر محال إذ من الضروري أن يكون هناك حكام وهناك من يقبل بحكمهم ولكن لما كان من المستحيل أن يكون جميع الناس حكاما وأن يجمع الحاكم كل الكمالات وأن تجتمع فيه كل صفات الإنسانية وأن يكتفي بتحقيق كمالا واحدا جزئيا كان من اللازم أن يحكم كل واحد نفسه بنفسه وأن تتوسع دائرة المشاركة بحيث يصير الإنسان سيد نفسه ويقدر الشعب على تقرير مصيره بنفسه وتوجب أيضا أن يكون الحكم تشاوريا والقيادة جماعية وأن تنتفي العلاقة الهرمية بين من هم أعلى ومن هم أدنى.
المشكلة أن المعركة مع أصنام الإقطاع والكهنوت والحكم المطلق وسطوة التقاليد لم تحسم بعد ولم تنتصر الحداثة في ربوعنا على الماضي الحاضر وإنما تمت اضافة أصنام جديدة هي العولمة المتوحشة وعقيدة السوق والدولة الشمولية وإخطبوط الحزب الواحد وهمجية الحل الحربي للقضايا الخلافية ومرض عسكرة الحياة السياسية ومهننة النشاط السياسي وتحويله إلى مقاولات للسمسرة والمتجارة بآلام الناس وما ينتج عن ذلك من كذب ونفاق.
الاشتباه الثالث يتمثل في اظهار بعض الناشطين الرغبة الجامحة في الزعامة وبلوغ المناصب واحتلال الكراسي الفارغة والبحث عن الحصول على السلطة السياسية بكل الطرق وحرق المراحل وإتباع وسائل ميكيافيلية غير بريئة وغير مبدئية والتضحية بالمشروع الحضاري في سبيل تحقيق مآرب شخصية ومنافع مادية ضيقة.
غني عن البيان أن الانتصار الى الحرية والعدالة والكرامة ونظافة الأيدي والطهارة الأخلاقية والنقاء الثوري قد لا يكفي للخروج من هذا المثلث المرعب: الماضي الرافض للاندثار والحاضر الممتنع عن البروز والمستقبل الموصد أمام العقل الاستشرافي. فما العمل يا ترى الآن وهنا ؟ وهل يقدر العقل العربي للرد على هذه التحديات؟ وما السبيل إلى رغم الغمة عن الأمة والتخلص من هشاشة عظام الجسد الديمقراطي في الوطن العربي؟
خاتمة:
"لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "[7]
إن الصالح العام المشترك والعروة الوثقى للجماعة السياسية تقوم على المقاومات التالية:
- لا تشكل الذات هويتها ولا تتمكن من الفعل السياسي الحصيف إلا داخل بنية عقلانية تغلب أبعاد الحوار والاختلاف والتعددية على أبعاد التطابق والمماثلة والتشابه.
- عدم اختزال السياسي في الاقتصادي وفي ممارسة السلطة والكف عن اعطاء أولوية للحساب والفعالية ومعارضة العقلنة الاجتماعية والاقتصادية بالعقلنة السياسية والحكمة العملية والاحتماء بالنوايا الطيبة والأخلاق الحية والقصد السليم.
- تعميم مبدأ الفعل المنتج والعمل الخلاق واحترام الإنسانية في جدلية الذات والغير وإقامة نسق من الغايات يكون فيه أعضائه هم في الآن نفسه المشرعون.
- لقد قامت الثورة بتحرير الذات من أسر الاستبداد وفك الوصاية المضروبة على الشعب وذلك بإعادة العالم الإنساني والعلاقات الإنسانية الى الإنسان ذاته.
- فعل الحكم ليس محصورا في بؤرة القانوني وحرم المحاكم ودائرة القضائي وإنما يستدعي الكلي السياسي الذي يوائم بين التفكير والرغبة وبين الذوقي والغائي.
- معنى العدالة لا يمكن ان يكون مستقلا عن مرجعية الخير بل يرتبط بالتوزيع العادل ويقتضي رفع النصيب الأدنى لتحقيق المنفعة المساوية للجميع وبالتالي يجب توفير الشروط الثقافية والسياسية في المجتمع الديمقراطي من اجل ممارسة العدالة.
- قيمة المواطنة لا تقبل القسمة وتشير الى طرائق الانتساب الى الهيئات السياسية وتمني حياة راضية في مؤسسات عادلة وتعيين الذات بوصفها قادرة على الفعل وتحمل المسؤولية في كل حالة.
- مساهمة الذات في الحياة المشتركة يجب ان تكون فعلية وكاملة وتجمع بين المقدرة على الفعل والمساهمة في الحكم والتنفيذ العملي والتمتع بالحقوق وتمتين الرابط الاجتماعي وتحسين الطابع التعاوني للممارسات العملية.[8]
- النظر الى الدين على انه اعادة الحرية الى الإنسان ودحر العبودية والظلم والاغتراب وإعادة سيطرة مبدأ الخير والتغلب على الشر.
- تطوير مفهوم الكتلة التاريخية والعمل على مقاومة اللاعدالة الفاضحة واللاتسامح الديني والتمييز العنصري والعنف السياسي بتوزيع المعرفة والثروة والسلطة بالإنصاف والتحلي بالسلم والعفو والقيام بالعقلنة المتدرجة للقناعات الفردية والتنوير البطيء للذهنايت الجماعية والتسوية المتبادلة بين الاقتناع والنظرية وإدارة الصراع والإبقاء على التنوع و تقوية أساليب الفعل السياسي المشترك.
لكن السؤال الذي يطرح هاهنا هو: كيف نتمكن من تحديد الخط الفاصل بين الصديق والعدو ؟ وماهو الثمن ندفعه من التعلم الشاق من صراعات دائمة ذات طابع كلي؟ وهل يتمكن مواطنو هذا الزمان من بناء قواعد متينة للعيش السياسي السوي ويحولون الثورة العربية الى ثروة حضارية؟ ومتى يعلم الملتفون أن للثورة فاعلين يحمونها؟
*******
المراجع:
القرآن الكريم
ابن رشد، تلخيص السياسة، نقله الى العربية حسن مجيد العبيدي وفاطمة كاظم الذهبي، دار الطليعة، بيروت، 1998.
أنتوني جدنز، الطريق الثالث، تجديد الديمقراطية الاجتماعية، ترجمة أحمد زايد، محمد محي الدين، محمد الجوهري، المجلس الأعلى للثقافة، 1999.
بول ريكور، الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2005.
كارل ماركس، المسألة اليهودية، ترجمة نائلة الصالحي،منشورات الجمل، كولونيا، 2003.
Gille Deleuze, Félix Guattari, Capitalisme et Schizophrénie, T1, Edition de Minuit, 1972.
******
الهوامش
[1]Agir en commun
[2] القرآن الكريم، سورة لقمان، الآية 22
[3] كارل ماركس، المسألة اليهودية، ترجمة نائلة الصالحي،منشورات الجمل، كولونيا، 2003، ص.50.
[4] أنتوني جدنز، الطريق الثالث، تجديد الديمقراطية الاجتماعية، ترجمة أحمد زايد، محمد محي الدين، محمد الجوهري، المجلس الأعلى للثقافة، 1999.
[5] ابن رشد، تلخيص السياسة، نقله الى العربية حسن مجيد العبيدي وفاطمة كاظم الذهبي، دار الطليعة، بيروت، 1998.ص.ص.140- 141,
[6]Gille Deleuze, Félix Guattari, Capitalisme et Schizophrénie, T1, Edition de Minuit, 1972, p.37 .
[7] القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 256
[8] بول ريكور، الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2005. ص، 353.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى