من أجل عولمة إنسانية
صفحة 1 من اصل 1
من أجل عولمة إنسانية
قد يثير هذا العنوان الجذاب الاستغراب، فالعولمة في العقل السائد رأسمالية منفلتة من عقالها، تتطلع إلى إعادة صياغة العالم لمصلحة بعض دول/مراكز، أو اقتصادات/عوالم، فهي تاليا بداية حقبة جديدة من تاريخ الاستغلال والاضطهاد الدولي، ترتكز على فارق التقدم وهوة التفوق التي حققتها دول رأسمالية معينة، تخضع هي نفسها -رغم تماثلها التقريبي في التطور العلمي والتقني- لمراتبية تضع الغرب على رأسها، إذن، على رأس العالم المعاصر اليوم وفي الغد المنظور أيضا، وتقيم نظاما جديدا يرجح أن يعيش لفترة طويلة جدا، يقول بعضهم: إنه سيكون نظاما أبديا، ما دام سيغير مفاهيم تبلورت منذ الإغريق، ووقائع تكونت وتوطدت في سياق العصور، وسيطيح بالدولة الوطنية والقومية، ويبدل معنى السيادة والسياسة ودور ووظيفة الثقافة، وأخيرا نمط الحكام، الذين لن يأتوا من الآن فصاعدا من صفوف الأحزاب العقائدية والمؤسسة العسكرية، بل من عالم الأعمال، عالم الشركات متعددة أو متعدية الجنسية، التي تصير نموذجا يعاد تنظيم الدول على ضوئه؛ لتكون دولا من طراز جديد، لعالم من طراز جديد، تبدل فيه موقع الإنسان من الوجود؛ لأنه يصير أكثر فأكثر من إنتاجه، كما تبدل الوجود الذي يتعاظم طابعه المعنوي والمجرد على حساب طابعه المادي والمشخص، وأخيرا، معنى الزمن؛ فلم يعد الماضي فسحته الأطول والأعمق أثرا؛ بل صار المستقبل هو الفسحة، التي ينقلنا الحاضر إليها بسرعة متعاظمة.
هل يمكن حقا أنسنة عولمة هذه سماتها ومراميها؟ أعتقد أن هذا مهمة على قدر هائل من الصعوبة، وأن فرص نجاحه محدودة في عالم قسمته المصالح المتناقضة إلى معسكرات ودول واتجاهات وجغرافيات متعادية، لا مبالغة في القول: إن بعضها يستغل اليوم بعضها الآخر، وإنه كان قد ازدهر البارحة على حسابه أو في غيابه، وإن واقع العالم والعصر لا يشير إلى تبدل سيصيب هذه الحال، بل يؤكد عكسه، أي تفاقمه وتزايد عيوبه. فبأي حق نتحدث عن عولمة مؤنسنة، إن كانت تنقل الإنسانية إلى طور عصيب تُبينه على خير وجهٍ الأرقامُ والمعطيات الإحصائية الحديثة حول البطالة والفقر والجوع والمرض والتفاوت، وإذا كان هذا كله لا يني يزداد سوءا بدوره؟.
تكاد أنسنة العولمة تكون قَدَرَ البشرية جمعاء؛ لأسباب منها سقوط النموذج الاشتراكي، الذي قدم نفسه بديلا للرأسمالية، وسيطرة الأخيرة على عالمنا إلى فترة ستكون على الأرجح طويلة جدا، وإمكانية تطوير نماذج مختلفة من الاقتصاد والتنظيم الاجتماعي والسياسي في ظل الرأسمالية المعولمة، التي يميز العارفون بين نموذجين ممكنين منها، يقوم أولهما على أولوية رأس المال على ما عداه، وثانيهما على العكس، وعلى أولوية العمل وعالمه على رأس المال وضروراته، ويقولون: إن لكل منهما تمثيلا ما في عالمنا الراهن، وإن أولوية رأس المال توجد في الولايات المتحدة الأميركية، بينما تراعي عولمة بعض مجتمعات أوروبا العمل وعالمه، وتحاول التوفيق بينه وبين رأس المال وممكناته.
متطلبات سياسية
كيف نضفي طابعا إنسانيا على العولمة؟ سأحاول الإجابة على هذا السؤال، انطلاقا من نظرة تطمح إلى أن تؤسس فسحتها على قيم عصر النهضة، التي أعتبرها قيما كونية، تصلح لكل زمان ومكان ولكل بيئة وشعب، وإن كان هناك من يرفضها بحجة أن العولمة تخطتها، وأن قيما أخرى في سبيلها إلى الحلول، أو حلت بالفعل محلها.
إن أول ما يتيح لنا أنسنة العولمة يكمن في احترام القيم، التي تمكننا من كبح طابعها التمييزي والقاسي، ووضعها في خدمة البشرية بافتراض أنها جسد واحد ومترابط، لا بد أن تتلاحم أجزاؤه وتتعاون في إطار من التكامل والتفاعل، يفيد مكوناته جميعها، ويسهم في حل ما تواجهه من مشكلات كثيرة ومعقدة. بكلام أوضح: لا بد من نظرة إلى العالم ترى فيه كيانا لا يجوز أن يسود الفقر والعوز والمرض والتأخر جزءا كبيرا منه، بينما ترتع قلة من شعوبه وأممه بالقسم الأكبر من دخله، وأن تستخدم ثرواته وموارده بطريقة تستنزفها بلا رحمة. من أجل إنهاء انقسام العالم إلى كثرة من الفقراء والأميين والمرضى والمتأخرين علميا وتقنيا، صناعيا وزراعيا، إنتاجيا ومعرفيا، وقلة من المنعمين والمتقدمين، ينتمون إلى عالم يختلف عن عوالم بقية بني البشر، أنجزوا قبل قرنين ونيف ثورتهم الصناعية، ثم ثورتهم العلمية التقنية، وينجزون في أيامنا ثورتهم الثالثة، بينما فشل القسم الأكبر من البشرية في تحقيق الثورة الأولى على الطريقة الأوروبية الحديثة، وتحول إلى ضحية لتأخره عن الثورة العلمية التقنية، ويرجح أن تقوض ثورة المعلوماتية الراهنة ما بقي من قدرات وطاقات لديه، إذا لم يمد العالم المتقدم يده لمساعدته، ويقدم له العون الضروري لإخراجه من بؤسه ولتمكينه من تحقيق انطلاقة ذاتية، تقلص فارق التقدم بين المتقدمين وبينه.
لإضفاء طابع إنساني على العولمة، لا مفر من أن تتقدم البشرية كلها، وإن بصور متنوعة ودرجات مختلفة، وأن تتقارب أجزاؤها بعضها من بعض، وتقوم بينها أشكال جديدة وخلاقة من التضامن، ترتكز على اقتناع المتقدمين من الدول والأمم بأن العيش على كوكبنا سيكون ضربا من المخاطرة المأساوية، إن بقي العالم على انقسامه، واستمر الاستقطاب الذي يقسمه إلى جهتين تحكمهما روابط العداء والتفاوت والتجاهل، يتجمع فيهما قدر من العنف أثبت يوم الحادي عشر من أيلول وقبله أنه قادر على اجتياز أي نوع من الحواجز والحدود والتدابير الأمنية، وأن انفتاح العالم الإجباري بعضه على بعض يكسبه طابعا عولميا بدوره، يجعل التصدي الناجح له رهنا بتضامن دولي شامل مؤسس على قيم العدالة والمساواة والإخاء، وعلى جهد عالمي تشترك فيه البشرية بأسرها، هدفه تقليص الفوارق بين أجزائها، وإتاحة العلم والمعرفة للعالم كله، وتنمية مناطقه المتأخرة والفقيرة، وتسهيل انتقال السلع ورأس المال والعمل فيه، وتطويره بطريقة متناسقة ومتكاملة، تعود بالنفع على قطاعات متعاظمة من بناته وأبنائه، فلا ضير إن خضع هذا كله لمؤسسات دولية تابعة للأمم المتحدة أو لمنظمات دولية وعالمية جديدة، تبلور خطط للتنمية العالمية المتوازنة تشمل مناطق المعمورة كافة، وتؤسس صندوقا موحدا للتنمية، تقدم كل دولة نصيبا من دخلها إليه يرتبط بحجم اقتصادها وحاجاتها، تديره خبرات علمية تشرف على التنمية المطلوبة وتنفذها بالتعاون مع الحكومات المحلية، مسترشدة بمعايير دقيقة تحول دون توظيفها في غير الغرض المحدد لها، أو لفائدة نخب قليلة من الحاكمين والمالكين، ولها حق محاسبة من ينهبها أو يحرم مواطني البلدان الفقيرة منها -وتربط- أخيرا، العمل في سبيلها بجداول زمنية وأولويات موضوعية محددة بدقة، تحفز القدرة على الإبداع والاستقلال الاقتصادي والاجتماعي لدى من يتلقونها، وتغطي حاجتهم إلى العلم والمعرفة والعمل والسكن والعيش الكريم، بتأمين مستلزماتها الضرورية، وإيلاء اهتمام خاص لأوضاع المرأة والطفل، ولتطوير الزراعة وتجفيف المستنقعات وتأمين مياه الشرب والكهرباء والسكن والعلاج والعمل لمئات الملايين المحتاجين والفقراء، وزيادة قدرة البلدان النامية والفقيرة على الانخراط في تقسيم العمل الدولي والتجارة العالمية، وتخصيص موازنات طارئة وإضافية لمساعدتها على تخطي كوارث الطبيعة ومآسي البشر، وإشراك شعوبها في تقرير شؤونها، وتمكينها من الإسهام في تحديد أولوياتها، وتأهيلها وإعدادها لتكوين أنماط من التمثيل المدني والسياسي المحلي تعبر عن نفسها من خلالها، فيصير ثمة نمو إنساني واقتصادي وعلمي واجتماعي وثقافي... إلخ متوازن، يعود بالنفع على مختلف البلدان، ويضفي التناسق على النمو العالمي الشامل، فيتجه أكثر فأكثر نحو التقارب، وتردم تدريجيا الهوة بين المتقدمين، الذين لن يتأخروا نتيجة إسهامهم في تقدم العالم الفقير، والمتأخرين، الذين سيتقدمون بوتيرة سريعة بفضل العون الآتي إليهم من المتقدمين، فتتعاظم شيئا فشيئا مشتركات مواطني العالم ومشاركتهم في أنماط الحياة من إنتاج واستهلاك وتوزيع، وأنماط التفكير والثقافة، وصولا إلى مغانم العدالة والتقدم والحرية.
متطلبات سياسية
هذا العرض الموجز والسريع لمتطلبات أنسنة العولمة على صعيد الاقتصاد يوصلنا إلى مستلزمات أنسنتها السياسية، التي ستجعل بالإمكان وضع موارد العالم - وخاصة منه المتطور -في خدمة التقدم الإنساني، وستوحده كمجال اقتصادي متكامل، تسوده شراكة حقيقية في المصالح تحوله إلى مجال سياسي مترابط، تنظم شؤونه معايير تعينه على تطوير المساواة في الحقوق والواجبات بين أجزائه، علما بأن قيامها يشترط تعدد أقطابه ومراكزه، وأخذه بمعايير دولية تحد من وتبطل أسباب الصراع بين أجزائه وبلدانه، عبر تنظيم علاقة دوله وبلدانه على أسس متوافق عليها، ضرورية لبناء نظام إدارة وأمن شامل، تشارك فيه جميع الدول، يحل بمرور الوقت محل مجلس الأمن الدولي، أو يضفي طابعا تشاركيا وديمقراطيا على عمله؛ ليحول بين الدول العظمى وبين استخدامه لتحقيق أغراض ومصالح قد تتعارض مع رغبات ومصالح بقية العالم، تسبب انقسامات عميقة في المجتمع الدولي؛ وتشحن علاقاته بقدر يتعاظم باضطراد من التوتر والعنف، فتفضي إلى حروب محلية تتسع وتمتد وتتحول إلى نزاعات مسلحة لا ضابط لها، مثلما هو الحال في فلسطين والعراق.
هذا المركز الدولي الجديد - الذي يمكن أن ينبثق عن الأمم المتحدة ومنظماتها - يجب أن يعمل وفق أسس وقيم كونية، طورتها البشرية خلال القرون لمنع وضبط النزاعات بين أجزائها، ووقف ما قد ينشب منها، والحيلولة دون تحولها إلى نزاعات مديدة أو غير قابلة للتسوية، أهمها الأسس والقيم، التي تم اختبارها بهذا القدر أو ذاك من النجاح خلال السنوات الستين الماضية، لكن الإنسانية والسياسات الدولية لم تتوصل بعد إلى أسس وقيم تتخطاها، كمبدأ عدم التدخل في شؤون الغير إلا بقرار دولي جامع، وعدم استخدام القوة أو العنف لحل النزاعات بين الدول، وعدم التخلي عن التفاوض والوسائل السلمية في العلاقات الدولية، وإقامة علاقات الدول والأمم على الندية والمساواة في الحقوق والتضامن والمصالح المشتركة والخيارات الحرة، ونبذ ما شأنه تعكير صفو العلاقات الدولية أو إثارة الصراعات بين الدول، على الحدود أو على المصالح.
ومن الجلي أن تطبيق هذه الأسس والقيم مستحيل دون إعطاء الهيئة الدولية الجديدة ما ستأخذه العولمة من سيادة الدول، وإلا فإنه لن يقوم لأول مرة في التاريخ البشري كيان يمثل وحدة العالم، هدفه تنمية مشتركاته وتحويلها إلى واقع كوني جامع، يتخطى تمثيله الدولة القومية والوطنية بما هما تعبير سياسي عن أمة معينة وشعب محدد، مع ما يجب أن يترتب على ذلك من تجديد وتوسيع لمفاهيم حقوق الإنسان، وتبدل في مفهوم المواطنة والسيادة الشعبية، وفي وظائف الدول المحلية التي ستضاف وظائف جديدة إلى وظائفها الراهنة، تتصل بتعميق مفهوم وواقع العدالة، وبتحقيق ونشر الحرية والديمقراطية، وتوطيد موقع ودور الإنسان من العالم والوجود والزمان؛ ذلك أن الإنسان الفرد -إلى أي شعب انتمى- سيعتبر العالم بأسره بيتا له، وسيكون حرا في أن يتنقل ويعمل ويبدع ويعيش في مختلف أرجائه، يحدد حقوقه وواجباته قانون كوني ينظم علاقاته بالعالم، الذي سيكون منخرطا في توحيد تدريجي، أداته الاقتصاد والتقدم العلمي/التقني، تجعله المصالح المشتركة متكاملا، بعد أن فتحت أجزاءه الداخلية بعضها على بعض، وزادت اندماجه وتفاعله، وأضفت طابعا خاصا على تقدمه يجعله عالميا ومتاحا بصورة متعاظمة لجميع أبناء آدم وحواء.
ترتيب للنظام الدولي
لا حاجة إلى التأكيد على أن أنسنة العولمة -وهي حلم يبدو اليوم بعيد المنال- تتطلب ترتيبا مختلفا للنظام الدولي، ينهي تعينه بدوله الكبرى، التي ستختلف وظائفها القائمة اليوم على القوة والمصالح القومية الخاصة، وستقوم من الآن فصاعدا على الريادة الاقتصادية والتقنية والسياسية والثقافية، وعلى فاعلية النماذج المادية والروحية التي سيقدمها للآخرين، والتي ستجعل منه قبلة لهم.
لا يعني هذا أن العالم المؤنسن سيخلو من قوى كبرى ودول صغرى، بل يعني أن موقع ومكان كل منهما سيختلف عنه اليوم، وأن تَبُّدلَ طبيعة الصراعات الدولية سيبدل طبيعة علاقات الدول بعضها ببعض، وسيضفي عليها عمقا جديدا، معيارُه تقدم الإنسان في إطار تنافس ذي أرضية مشتركة، تحول دون وقوع نزاعات دولية، وتسهم في منع نشوبها أصلا. أخيرا، فإن عالم العولمة لن يتأنسن إذا لم يكن ديموقراطيا؛ إذا لم يكن عالم قانون وحقوق إنسان ومساواة وعدالة ومواطنة ومجتمع مدني، أي عالم مواطنين أحرار، منتجين ومبدعين، لا يفرقهم جنس أو لون أو دين، ولا يعترفون بالتمييز أو يمارسون التعصب والعنف.
متطلبات ثقافية
نصل الآن إلى المستلزمات الثقافية، التي تجعل أنسنة العولمة ممكنة، ويأتي في مقدمها الإيمان بوحدة الثقافة العالمية وبتكامل أجزائها، والتخلي عن فرضيات وأطروحات صراع الحضارات، بما تعنيه من تقسيم الحضارات إلى فسح متنازعة، ومن رسم استراتيجيات سياسية ترتكز على صراع الحضارات الثلاث، التي صنعت واقع البشر: الغربية: اليهودية/المسيحية، والشرقية: الشنتوية/البوذية، والوسيطة: العربية/الإسلامية، التي يقال: إنها ستتصارع إلى أن يتقرر مصير العالم النهائي، وإن صراعها سيكون شكلا حديثا لصراع دولي زال منه التناقض الرأسمالي/الاشتراكي، فكان لا بد أن يحل محله صراع من نمط جديد هو الصراع الحضارات، الذي ستترتب عليه معضلات من نمط يختلف عن تلك التي أنجبتها أنماط الصراع التي عرفها العالم إلى اليوم، وستنجب نتائج مختلفة ستتعين جميعها بمواقف الحضارة الوسيطة، العربية/الإسلامية، التي يمكن أن تنحاز إلى الحضارة الشرقية، بسبب خبراتها السلبية مع الحضارة الغربية، فلا بد لمنعها من انحياز خطير كهذا أن تكسبها الحضارة الغربية بالحسنى أو أن تكسرها بالقوة، عبر احتلال مناطق منها، أو من خلال حرب عامة يشنها القطب العالمي الوحيد ضد الإرهاب.
كي تلعب الثقافة دورها في أنسنة العولمة، يجب أن تكون ثقافة إنسانية، وأن تقوم على ما ابتكرته الفلسفة من نزعات إنسانية منذ سقراط إلى اليوم، وأن تضع الإنسان في مركز الوجود، وتؤمن بأهليته للحرية والتقدم، وبقدرته على بناء عالمه الذاتي بوصفه جزءا من عالم الآخرين، يتفق في طموحاته ومراميه مع طموحات ومرامي أي فرد آخر، انطلاقا من رؤية أرسطو للإنسان كـ(ذات حرة وجديرة بالحرية بغض النظر عن تعييناتها الموضوعية)، وسعي الفلسفة والفكر الإنساني -خاصة في القرون الحديثة- إلى إقامة بيئة سياسية واجتماعية تكفل حرية الإنسان وتنميها، وتعمل على تأسيس سلطة ترى نفسها قائمة على حريته وحقه في الحياة والكرامة. ألا يعني هذا أن العولمة لن تتأنسن دون ثقافة ليبرالية وديموقراطية، كونية الطابع، عقلانية المضمون والنهج، ترى في كل إنسان فردٍ سيدا للكون وهو في الوقت نفسه رهان المجتمع العالمي ودوله، ومآل ومعيار أي جهد أو تطور، عاما كان أم خاصا.
من الضروري أخيرا ربط أنسنة العولمة بقدرة كل واحد منا على أنسنة وجوده وفكره، ما دام مصير البشرية يتصل بمصيرنا جميعا، ونمط وجودها يتعين بنمط وجود كل واحد منا. وللعلم، فإن الأنسنة لن تنجح دون تطوير نوعي صوب الإنسان العارف والصانع، الذي ارتبط تقدم البشرية بجهوده ومعارفه، حتى صار أنبل كائن في الوجود، ومعيار كل الأشياء، كما قال برمنيدس أحد فلاسفة اليونان!
لن تكون أنسنة العولمة أمرا سهلا، ولن تتم مرة واحدة، بل ستكون نتاج جهد هائل وطويل، سيقوم الجنس البشري خلاله بمواجهة قوى كثيرة تكبح رغبته في الحرية والعدالة. وللعلم، فإن في العولمة نزوعا معاديا للأنسنة، تجعلها مشروع أقلية من البشر ضد أغلبيتهم، وإنجازا لمتقدمين ينأون بأنفسهم عن المتأخرين، وميسورين يتجاهلون بؤس المحتاجين والمقهورين. إلا أنه -بل وبسبب ذلك بالذات- تبقى أنسنة العولمة غاية البشر، ما دامت العولمة ذاتها قدرهم الذي يبدو أنه لا مهرب منه.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى