فلسفة الوسطية... والتخلي عن المركز
صفحة 1 من اصل 1
فلسفة الوسطية... والتخلي عن المركز
لا شك في أن موقع الإنسان بين الكائنات وطبيعة تكوينه يرسمان قدراته بوصفه إنسانا وواجباته تجاه ذاته والآخرين كما يرسمان طبيعة المشروع الكوني والأخلاقي الذي يؤسسه وجوده في الكون وبين الكائنات ويحددان في الوقت ذاته هذه القدرات والإمكانات. ذلك المشروع الذي يتحدد من خلال منظومة من العلاقات مع الذات ومع الطبيعة ومع الآخرين ومع الله والمقدسات.
لقد عني الفلاسفة على مر العصور بالإنسان بوصفه ذلك الكائن الذي يتوسط السماء والأرض فتتعامل فلسفاتهم معه بموجب تلك الوسطية التي تحدد معالمه فلو كان الإنسان ملاكا بالكامل أو حيوانا بالكامل لتغيرت الصورة تماما ولانتفت الحاجة إلى الكثير من الاعتبارات والدراسات بل لانتفت الحاجة إلى التأكيد على القيم والمبادئ الأخلاقية تماما. إما وان الإنسان كائن وسط بين الخير والشر فالحاجة ماسة إلى التأكيد على الأخلاق والقيم والفضائل الأخلاقية. وليس من قبيل المصادفة أن تشكل الأخلاق مركز الثقل بالنسبة إلى كثير من الفلاسفة وعلى مر العصور فهذا أفلاطون يفرد للأخلاق والقيم الأخلاقية الجزء الأكبر من محاوراته وكذلك يفعل تلميذه أرسطو الذي سنتناول آراءه بتفصيل أكبر؛ وذاك عمانوئيل كانت "1804 - 1724 Kant" يؤكد انه وجد من الضروري "إنكار المعرفة لفسح المجال للإيمان" وإنقاذ الأخلاق من الحروب التي يشنها الفكر غير النقدي عليها.
وفي التطورات ما بعد الحداثية تم التخلي تماما عن المركز الذي تتحدد من خلاله الأشياء والمعاني والقيم وانحسرت الثوابت أمام النسبية وترك الإنسان وحيدا ضائعا حائرا بين الكم الهائل والسيل الهادر من الأفكار والإمكانات التي تتساقط عليه من كل حدب وصوب، تشترك في ذلك وسائل الإعلام باختلافها تؤازرها وسائل الترفيه والفنون الجميلة منها والقبيحة والمتدنية حد الإسفاف فضلا عن كل وسائل الاتصال والإيصال المتاحة نتيجة التطور التكنولوجي في عصر العولمة هذا الذي نعيشه. كل ذلك يقترح ويسوغ ويفرض على الإنسان طرق تفكير وسلوك غريبة وبعيدة كل البعد عن الطبيعة والعقلانية والصواب. وفي خضم حيرة الجميع وفي أتون هذا الصخب المتزايد والتعددية التي لا حد لها والفوضى الضاربة أطنابها في جوانب الحياة الشخصية والعملية والاجتماعية يزداد الضغط على الإنسان في منطقتنا المنكوبة بقدرها وبأخطاء الماضي والحاضر أضعافا مضاعفة. وينجم عن ذلك مجموعة من الأزمات: أزمة هوية مع الذات ومع البيئة ومع الآخرين الأقرب والأكثر بعدا، الأقل والأكثر تأثيرا. ويزداد إلحاح السؤال عن إمكان تحديد العلاقة مع كل هذه الجوانب.
أزعم أنه مهما كان خيارنا فهو خيار إنساني أخلاقي بالدرجة الأولى لا يقتصر على دين من دون آخر ولا على أمة من دون غيرها؛ وأنه مهما تعددت الغايات فإن الغاية النهائية هي الخير الذي يتحقق للإنسان ولبني البشر جميعا مهما اختلفوا وأزعم فوق هذا وذاك أن للزمن والتاريخ استحقاقاتهما فما كان يصلح قبل قرون قد لا يصلح اليوم أمام المتغيرات والظروف المستجدة التي فعلت فعلها وصاغتنا صوغا جديدا قبل الآخرين.
نشهد اليوم في الفلسفة الغربية المعاصرة بين الفلاسفة من يؤكد أن الإنسان كائن وسطي في المابين وذلك بأكثر من معنى فهو بين الأرض والسماء وبين الحيوان والملاك أو بين الحيوان والإله وبين المادة والروح وبين ذاته وأحوالها المختلفة وبين ذاته والآخر إلى غير ذلك من ثنائيات لا نهاية لها تشده وتتجاذبه ويقف تجاهها حائرا أين ينتمي ولمن يكرس ولاءه. وبمعنى أكثر عمقا نجد الإنسان في المابين يشده وجوده المادي إلى الأسفل مستجيبا لحاجاته وأهوائه الذاتية والمادية وأحادية المعاني والاحتمالات متطلعا في الوقت ذاته إلى آفاق بلا حدود وغنى في المعاني والإمكانات لا حد له. الوسطية قدر الإنسان لكنها مصدر قوة وانفتاح لفضاءات لا نهاية لها.
الوسطية في الفلسفة اليونانية: ارسطو نموذجا
يلعب التناغم والتناسب والانسجام دورا أساسيا في الفكر اليوناني فهو أساس الحقيقة والوجود فضلا عن الأخلاق ويتحقق التناغم حين ترتبط عناصر الشيء أو جوانبه فيما بينها بطريقة لا يطغي أو يبغي أحدها على الآخرين فاعتبر فيثاغورس النسبة العددية أساس العالم والأخلاق والجمال وكذلك فعل أفلاطون حين اعتبر الأشكال والنسب الرياضية الأساس الذي اعتمده صانع الكون "محاورة طيماوس". واعتبر تناغم وتناسب قوى النفس أساس الفضيلة في الأخلاق "الجمهورية". كما اعتبر تناغم الغايات في الدولة اساس العدالة في فن السياسة؛ كل ذلك تحت لواء الخير الذي تدركه النفس العاقلة والذي يعتبره أفلاطون أساس وذروة الحقيقة وغاية الغايات. الخير يتعلق بخيار أخلاقي معرفي عقلاني لكائن يقع في الوسط بين عالم الحواس المادي وعالم المثل الروحاني. ولكل من العالمين إغراؤه الذي لا يقاوم وما اشد صعوبة التخلص من أغلال عالم المادة كما يعلمنا افلاطون ببلاغة في مجاز الكهف "الجمهورية، الكتاب الثالث". وفي المقابل ليس أجمل من مرأى عالم المثل والمكوث في رحابه "فايدرس". وعلى رغم انحياز أفلاطون لعالم المثل فإنه يعترف بضرورة التدرج في المعرفة من الحسي إلى الروحاني ويشترط للوصول إلى الروحاني ترويض الجسد لإعداد النفس المرتبطة به للعودة إلى عالم المثل.
ويعتبر أرسطو الفيلسوف الأخلاقي الأكثر أهمية في مجالنا هذا إذ يعد كتابه "الأخلاق النيقوماخية" أساسا لكثير من الدراسات في هذا المجال. يرى أرسطو أن كل فعل وكل سعي يهدف إلى خير ما جزئي ومباشر أو نهائي لذاته، والخير الذي نهدف إليه دائما لذاته وليس بحثا عن غاية أخرى هو السعادة.
الموضوع الوسط يقع في مسافة متساوية من جميع المبالغات وهو الشيء ذاته بالنسبة إلى الجميع أما الوسط بالنسبة لنا فيعني ما ليس أكثر ولا أقل مما ينبغي ولا يكون ذلك متساويا بالنسبة إلى الجميع. لهذا فإن البحث عن الوسط لا يكون في الموضوع وإنما بالنسبة إلينا. صفة الفضيلة ينتج عنها الأفعال أو الإحساس بالانفعالات نسبة إلى الموضوع المناسب تجاه الأشخاص المناسبين للدافع الصحيح وبالطريقة الصحيحة وذلك ما يعطينا ما هو وسط وأحسن وتلك هي صفة الفضيلة. الفضيلة إذا وسط يهدف إلى ما هو متوسط أو وسطي بين الإفراط والتفريط.
الوسطية عند أرسطو أسلوب حياة يجعل الإنسان يمارس حياته بشكل أفضل ويكون مواطنا أفضل لذاته وفي تعامله مع الآخرين والمجتمع. وفي النهاية فإن الإنسان عند أرسطو حيوان سياسي يعيش في مجتمعات مع الآخرين ليس فقط للعيش وإنما لتحقيق الحياة السعيدة والعلم العملي الذي يهتم بشئون تلك الحياة هو السياسة، الفن السيادي الأكثر سلطة وأهمية، هذا الفن غايته تحقيق السعادة لدولة أو لأمة ما والأخلاق فرع من السياسة تعنى بالفرد بوصفه إنسانا عادلا ومواطنا صالحا. ويرى أرسطو ان تحقق سعادة الإنسان من خلال أسلوب معين أو طريقة حياة معينة لابد أن يتأثر بالبيئة الاجتماعية وبقوانين وعادات ومؤسسات المجتمع الذي يعيش فيه وينتمي إليه. "الكائن الاجتماعي لا يستطيع أن يحقق الخير لذاته إلا في المجتمع وفي مجتمع منظم بالشكل الصحيح لتحقيق الخير له".
الوسطية عند بعض الفلاسفة المسلمين
تأثر الفلاسفة المسلمون بالفكر اليوناني وخصوصا بفكر أرسطو والأفلاطونية المحدثة. وحاولوا التوفيق بين الفلسفة اليونانية وبين الدين وأشكال الثقافة الإسلامية الأخرى وركز غالبيتهم على أخلاق الفضيلة كما فعل أرسطو.
يتفق أبونصر الفارابي "ت 950م" مع أرسطو في نظرته إلى الوسطية وفي كون الفضائل هيئات إنسانية وملكات متوسطة بين الإفراط والنقص. الفضائل صنفان: نطقية مثل الحكمة والعقل وجودة الفهم، وخلقية مثل العفة والشجاعة والسخاء والعدالة. وهذه الأخيرة ترسخ في النفس نتيجة التكرار والاعتياد فالإنسان لا يولد على الفضيلة وإن كان قد يمتلك استعدادا لها فإذا اجتمع الاستعداد مع الاعتياد تحقق التمام والكمال. يرى الفارابي أن "الشرور تزال عن المدن أما بالفضائل التي تمكن في نفوس الناس، وإما بأن يصيروا ضابطين لأنفسهم". وفي الحالتين نكون أمام ممارسة الوسطية إما من خلال فضائل ترسخت في الشخصية نتيجة الاعتياد والممارسة، أو من خلال اعتماد الوسطية في تهذيب الانفعالات واختيار السلوك الأمثل.
أفعال الخير هي الأفعال المعتدلة والمتوسطة بين الإفراط والتفريط. والتوسط هنا ليس مطلقا أو بذاته وإنما بالإضافة والقياس أو نسبة إلى غيره أي بحسب الفاعل والظرف والزمان والمكان.
في أمور السياسة يرى الفارابي أن العدل هو القسمة العادلة للخيرات لجميع أهل المدينة وحفظ تلك القسمة والإبقاء على عدالتها. ويذكر من الخيرات السلامة والأموال والكرامة والمراتب التي يرى أن لكل فرد حقا فيها بقدر ما هو مؤهل. وأي خلل من زيادة أو نقصان يعتبر جورا عليه أو على أهل المدينة. والعدل ينطبق كذلك على التعامل بين الفرد والآخرين.
أما ابن مسكويه 936 -1030م فالعدل عنده مشتق من معنى المساواة، والمساواة هي أشرف النسب. والعدالة في المعاملات هي المساواة بين الأشياء غير المتساوية والعادل يجب أن يكون عالما بطبيعة الوسط حتى يصلح الزيادة والنقصان. ويرى ابن مسكويه أن الشريعة أو ناموس الله هي التي ترسم التوسط والاعتدال في الأشياء ويعتبرها ناموس النواميس وقدوتها. المتمسك بالشريعة يعمل بطبيعة المساواة فيكتسب الخير والسعادة من وجوه العدالات لأن الشريعة لا تأمر إلا بالخير والفضيلة. يأتي بعدها الحاكم الذي يقيم العدل بين المتخاصمين ويسميه بالعدل الناطق تمييزا له عن العدل الساكت أو الدينار الذي يعتمده الناس في معاملاتهم لتحقيق العدل والمساواة في مبادلاتهم وتعاملاتهم ويسميه أيضا بالعدل المدني لأن البشر، كونهم مدنيون بالطبع، يتعاونون ويقدم بعضهم لبعض خدمات لا يمكن تقديرها أو معادلتها إلا بالدينار. يرى مسكويه أن المدن تعمربالعدل المدني وتخرب بالجور المدني
وينحو فخرالدين الرازي "1149/1209م" منحى مختلفا نوعا ما فيرى في تبرير وجود الانسان بين الكائنات ان من مقتضيات الجود والرحمة الإلهية وجود مرتبة من الموجودات المتوسطة بين الملائكة والبهائم، فالإنسان وإن اشتمل على الفساد بسبب الشهوة، فقد اشتمل أيضا على الشوق إلى الحق، وذلك خلافا للملائكة الذين لا يصح عليهم الشوق أصلا. فوجب في الحكمة إدخال الطبيعة البشرية في الوجود وتحصيلا لهذا المقام "مقام الشوق". يخالف الرازي في قوله هذا الرؤيا الوجودية الغربية المتمثلة في قول سارتر إن الإنسان شغف أو انفعال لا طائل منه.
الإنسان عند الرازي له عقل وحكمة وله طبيعة وشهوة وعليه ينطبق قوله تعالى "إني جاعل في الأرض خليفة" "البقرة: 30"، يجمع بين الشهوة والغضب من ناحية وبين العقل من ناحية أخرى ويربط بين الجانب الإلهي والجوانب الأدنى من الخلق. فهو يشترك مع الملائكة في إمكانية التسبيح لله وتمجيد الله كما يمتلك مقام الشوق الذي لا يشترك فيه مع الملائكة. "مقام الشوق مقام شريف. فوجب في الحكمة إدخال الطبيعة البشرية في الوجود تحصيلا لهذا المقام". يحصل الشوق في حالين: الأولى إذا رأينا موضوع الشوق ثم غاب عنا فيبقى في الخيال آية الصورة "فاشتاق الروح أن ينقل الأثر من عالم الخيال إلى عالم الحس". والثانية في حصول الشوق أن يرى الإنسان جانبا من موضوع الشوق ولا يراه بكليته "فيشتاق إلى أن ينكشف له ما لم يره".
من الملاحظ أن الرازي يفسر الآية الكريمة "إني جاعل في الأرض خليفة" بأن الإنسان يشكل حلقة وصل ووسط بين الكائنات الأعلى والكائنات الأدنى فيرفع بذلك من مقامها ويهتم بخيرها والعناية بها.
يرى الرازي أن وسطية الإنسان بين العالم المادي وحاجاته وبين عالم القدس والجلال يجعله يتأرجح بين هذين العالمين فينتقل بين الظلمات والنور وبين الألم واللذة. وعند انتقال بني البشر إلى عالم النور "يحصل لهم من اللذات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت". ويؤدي تعاقب الحالين إلى تعاقب الإحساس القوي بالألم واللذة، ما يشبهه الرازي "بالدغدغة الروحانية". كما يرى أن خلق البشر على هذه الحال الوسطية يدل على كمال الجود والرحمة: أما كمال الجود فلأنه لا مناسبة بين التراب وبين جلال رب الأرباب. ثم إن الحق برحمته التامة وجوده الكامل، جعل التراب صفة الذرة الحاملة للأضواء الإلهية والأنوار الصمدية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى