ضلال الهويات المجنونة: في نقد الهوية والانتماء عند أمين معلوف
صفحة 1 من اصل 1
ضلال الهويات المجنونة: في نقد الهوية والانتماء عند أمين معلوف
قد علمتني حياة الكتابة أن أحذر الكلمات. فتلك التي تبدو أكثر وضوحا، هي في الغالب أشدها خيانة.. ولعل أحد هؤلاء الأصدقاء المزيفين، هو بالتحديد كلمة "هوية".
أمين معلوف، الهويات القاتلة، ص: 15
أقيم في الثاني والعشرين من شهر أكتوبر الجاري بمدينة "أوبييدو" الإسبانية، حفل التتويج الرسمي للروائي والمفكر الفرنسي اللبناني الأصل "أمين معلوف"، بمناسبة حصوله على جائزة "أمير أستورياس للآداب" للعام 2010. وتعتبر هذه الجائزة، أرفع درجة في سلم الجوائز التقديرية، التي تمنحها الدولة الإسبانية في ثمانية مجالات إبداعية وفكرية مختلفة. وقد اعتبرت لجنة التحكيم في حيثيات تقريرها، "أن أعمال أمين معلوف المترجمة إلى أزيد من عشرين لغة، تجعل منه أحد أبرز الكتاب المعاصرين الذين سبروا بعمق ثقافة حوض المتوسط، كمساحة رمزية للتعايش والتسامح". وبفوزه بهذا الاستحقاق، ينضم معلوف إلى قافلة كبار الأدباء العالميين، الذين سبق أن حظوا بشرف هذه الجائزة، كالبيروفي "ماريو بارغاس يوسا"، والإسباني "كاميلو خوسي سيلا"، والألماني "غونتر غراس"، والألباني "إسماعيل قاداريه".
ولد أمين معلوف في 25 فبراير سنة 1949 ببيروت. بعد إكمال دراسته في مجالي الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع، وجريا على عادة أسلافه، سيلج عالم الصحافة من بابه الواسع. حيث سيشتغل في هذا الصدد محررا اقتصاديا في جريدة "النهار" اللبنانية. ثم بعدها سيشد الرحال ليستقر بباريس في العام 1976، بعد اشتداد الحرب الأهلية اللبنانية، ليتولى هناك مهمة رئيس تحرير مجلة "جون أفريك" و"إيكونوميا". كما قام أيضا بتغطية أحداث سياسية هامة، مثل حرب فييتنام والثورة الإيرانية، وأنجز أزيد من ستين ربورتاجا في نواحي متفرقة من العالم، قبل أن يتفرغ نهائيا للكتابة الروائية في سنة 1985، بعد النجاح المدوي الذي عرفه كتابه: "الحروب الصليبية كما رآها العرب" الصادر سنة 1983. وقد صدرت له في هذا الشأن، العديد من الأعمال الأدبية والفكرية، نذكر من بينها على الخصوص: "ليون الإفريقي" (1986) و"سمرقند" (1988) وحدائق النور (1991). كما ترجمت أعماله إلى أكثر من عشرين لغة عالمية. ولعل أهم ما يميز أعمال معلوف الروائية، هو أنها تسعى إلى مد جسور التواصل بين عالمي الشرق والغرب، اللذين لا يكف عن إعلان الانتماء إليهما معا، وهو ما أهله للحصول على جوائز عالمية عدة، وخاصة: جائزة "الصداقة الفرنسية العربية" عام 1986، عن روايته "ليون الأفريقي"، وجائزة "غونكور" الفرنسية عن روايته "صخرة طانيوس" عام 1993.
للتعريف ببعض مواقف وأطروحات الرجل الفكرية، نقدم في هذه المقالة، قراءة في كتاب: "الهويات القاتلة"، الذي صدر له سنة 1998 عن منشورات "جراسي" بفرنسا. ويعد هذا الكتاب في نظر العديد من النقاد والدارسين، من بين أهم أعماله الفكرية التي يسائل فيها أمين معلوف بحسه النقدي الرفيع وأسلوبه الرقيق، موضوعات لها راهنيتها اليوم، مثل: الهوية والانتماء والعولمة.
القتل على الهوية: أصل الحكاية
تبتدئ حكاية أمين معلوف مع موضوع الهوية، حين غادر لبنان بلده الأصلي في أحد أيام سنة 1976، هربا من أتون حرب طاحنة لا تبقي ولا تذر. وبعد أن استعر أوار المعارك بين الإخوة الأعداء، وانزلقت من حرب سياسية معلنة إلى حرب طائفية وإلى "قتل على الهوية"، قرر الرحيل بعيدا ليستقر به المقام في فرنسا. ولكن من مفارقات القدر، أن "القتل على الهوية" سيتخذ هذه المرة بعدا رمزيا، حيث سيظل سؤال الهوية يطارده كاللعنة أينما حل وارتحل.
لم يحس معلوف بعقدة الانتماء حين حل بفرنسا، لأنه كان يشعر بالانتماء إليها "بالقوة" من خلال الثقافة، قبل أن يصبح منتميا لها "بالفعل" بحكم الجغرافيا. وقد توطدت هذه العلاقة منذ وطئت قدماه أرض فرنسا، وشرب ماءها ونبيذها، ولا مست يداه أحجارها القديمة، كما يقول. (معلوف، ص: . غير أن هذا "الإحساس بالانتماء" بدأ يتعمق لديه، بل وأصبح يضطهده منذ اللحظة التي سئل فيها، عما إذا كان يحس في "قرارة نفسه"، بالانتماء إلى فرنسا أم إلى لبنان. وكان جوابه البدهي: "إنه يشعر بالانتماء إليهما معا". (معلوف، ص: 7).
لكن جوابا كهذا، لم يكن كافيا ليقنع محدثيه، وهو الذي لم يكن يشك لحظة واحدة في حسن نية سائليه. إذ كان أحيانا، وبمجرد الانتهاء من الاستفاضة في إيراد الأسباب الدقيقة والعميقة التي تحمله على أن يتبنى هذا "الانتماء الكلي" إلى الثقافتين العربية والفرنسية، يفاجأ بأحدهم يتقدم نحوه، وهو يربث على كتفه هامسا: "لقد كنت محقا فيما قلته، ولكن هل هذا ما تشعر به فعلا في قرارة نفسك؟"
مثل هذه الأسئلة "المبتسرة" التي لم يكن يعرها معلوف اهتماما في بداية الأمر، واعتاد أن يقابلها بابتسامة عريضة، أضحت تشكل مع مرور الوقت مصدر إزعاج وقلق لديه. ومع تكرار طرحها بدأ يدرك، أنها ليست من نوع الأسئلة العادية التي يمكن للمرء أن يغض الطرف عنها، بل أسئلة إشكالية أكثر تعقيدا، تتوجب منه مزيدا من الحرص والحذر، كونها تنم في العمق عن تمثلات محددة للهوية. ولعل أحد أخطر هذه التمثلات وأصعبها، تلك التي تعتقد في وجود مظهرين اثنين للهوية: مظهر جلي نعلنه ونبديه في أفعالنا وسلوكنا، وآخر خفي نداريه ونحجبه في دواخلنا وسرائرنا.
وهكذا فعندما نسأل عما نحن إياه في قرارة أنفسنا، يقول معلوف متبرما، فهذا معناه أن لكل إنسان قرارة نفس، انتماء واحدا مهما، يشكل "حقيقته" العميقة بشكل ما، هي التي يتحدد في ضوئها جوهره منذ الولادة مرة واحدة وإلى الأبد، دون أن يتغير أبدا. كما لو أن الباقي، كل الباقي، أي مسيرته كرجل حر، وقناعاته المكتسبة، وتفضيلاته، وحساسيته الخاصة، وميوله، وحياته كمحصلة، لا تهم في شيء. وعندما نحث معاصرينا على تأكيد هويتهم مثلما نفعل اليوم في أغلب الأحيان، فما نقصده هو أن عليهم أن يجدوا في أعماقهم ذلك الانتماء الأساسي المزعوم، الذي غالبا ما يكون دينيا أو قوميا أو عرقيا أو إثنيا، ليرفعوه في وجه الآخرين". (معلوف، ص: 9)
هذه المواقف جعلت أمين معلوف يعيد صياغة السؤال حول الدلالات الحقيقية والأبعاد الكامنة وراء حاجة الناس إلى الانتماء الجماعي، ثقافيا كان أم دينيا أم وطنيا؟ وعن الدواعي من وراء هذه الرغبة الشرسة، والمشروعة في تأكيد الذات، التي تقودهم إلى الخوف من الآخر والسعي إلى إلغاء حقه في الوجود؟ أي بعبارة: التساؤل حول مفهوم الهوية وانزلاقاته القاتلة.
في نقد التصور القبلي tribale للهوية:
لم يكن معلوف وهو يخوض في هذا الموضوع يقلل من حجم المشكلات التي قد تعترضه، بل كان يعي جيدا، أن مفهوم الهوية يعتبر من بين أكثر المفاهيم تعقيدا، ليس لكونه يصر بعناد على الانفلات من التحديد والضبط، بل لكونه أصبح اليوم أقل استقرارا، لدرجة غدا من الصعب مقاربته وتأطيره من دون استحضار بعدي الزمان والمكان. ذلك أن الهوية بشكل عام، تتعلق بأفهام الناس وتمثلاتهم لذواتهم، ولما يعتقدونه مهما في حياتهم، وتتشكل انطلاقا من خصائص محددة، تتخذ مرتبة الأولوية على غيرها من مصادر المعنى والدلالة. (أنطوني غدنز، ص: 90).
غير أن الهوية، في مستواها الفردي و الجماعي، وإن كانت تشير في دلالتها العامة، إلى الطريقة التي نعي بها ذواتنا، ونرسم من خلالها صورة متميزة لما نكونه، ولما تكونه علاقتنا مع العالم من حولنا، فإن هذه النظرة التي نحملها عن أنفسنا وعن الآخر، ليست معطاة بشكل قبلي ونهائي، بل هي متحولة وتتشكل عبر التاريخ وتغتني من خلال التجارب. (أنطوني غدنز، ص: 91).
ومن ثم، يعلن معلوف رفضه التصور التبسيطي والقبلي الذي يختزل مفهوم الهوية بردها إلى مبدإ واحد وثابت، معتبرا أن الهوية، فردية كانت أم جماعية، ليست معطى فطريا استاتيكيا، يعطى دفعة واحدة وإلى الأبد، بل إنها تتشكل على الدوام، وتتحول على طول الوجود. وهو ما يجعل من الهوية بالضرورة، مفهوم مركبا ومتعددا، كونه لا يحيل على انتماء واحد، بل عن مجموعة من الانتماءات التي قد تتفاوت في تراتبها من حيث الأهمية، وتشي بدلالة ما، وهذه الانتماءات المتعددة هي التي تعطي للشخصية الفردية والجماعية في النهاية، غناها وقيمتها الخاصة. وهذا الأمر لا ينطبق على الهوية الجماعية فحسب، بل ينسحب أيضا على الهويات الفردية للأشخاص، ويؤثر في تحديد الاختلافات والفروقات بين الجنسين أيضا. ومن هنا تبرز أهمية الدور الذي يلعبه المحيط الاجتماعي في رسم التمثلات الذهنية وتكييف المواقف لدى الأفراد، وفي "تحديد معنى الانتماء" لديهم. "فأن تولد الفتاة في كابول أو أوسلو ليس له المعنى ذاته. فهي لا تحيى أنوثتها بالطريقة ذاتها، ولا أي عنصر آخر من هويتها". (معلوف: ص: 31)، وهو ما يذكرنا بقول سيمون دو بوفوار المأثور: "إننا لا نولد نساء، بل نصير كذلك".
إن الإقرار بهذا التنوع والتعدد في الانتماء، بحسب معلوف، يصبح عامل خصب وغنى، إذا أحسنت البشرية استثماره بشكل جيد. ولكنه قد يتحول بالمقابل إلى تعصب وتطرف أعمى و"مصدرا محتملا للصراع بين الناس"، حين يتم اختزاله قسرا داخل هوية واحدة كاملة مطلقة متعالية، تدعي تفوقها على الجميع، ونزوعها القوي للهيمنة على باقي الهويات الأخرى… أي حين تتحول إلى "هوية قاتلة".
في مفهوم الهوية القاتلة:
يعني معلوف بهذا المفهوم، ذاك النزوع من الوعي والتفكير، الذي يختزل الهوية بردها إلى مصدر واحد، ويجعل الناس في موقف متحيز ومذهبي ومتعصب ومهيمن، وأحيانا انتحاري، ويحولهم في الغالب الأعم إلى قتلة أو إلى أنصار للقتلة. (معلوف، ص: 39).
ولعل هذا ما جعل معلوف ينطلق في بناء تصوره لمفهوم "الهوية القاتلة" من سؤال أساسي قد يبدو للوهلة الأولى بدائيا، أو على الأقل مكرورا، ويتلخص هذا السؤال كالتالي: ما الذي يجعل الناس اليوم يرتكبون جرائمهم باسم هوياتهم، سواء كانت هذه الهوية دينية أو إثنية أو قومية أو غيرها؟ وما الذي ينبغي فعله، حتى نحول دون أن تتحول شريعة القتل باسم الدفاع عن الهوية، إلى نوع من الدفاع المشروع؟
يجيب معلوف بالقول: إن كل شخص من دون أي استثناء، يتمتع بهوية مركبة، يكفيه أن يطرح بضعة أسئلة ليستخرج كسورا منسية وتشعبات لا شك فيها، وليكتشف أنه مركب وفريد وغير قابل للاستبدال (معلوف: ص: 28)، وهذا هو بالضبط ما يشكل هوية كل فرد، فيجعل من الواحد قاتلا، ومن الآخر رجل حوار ووفاق. (معلوف: ص: 29).
إن هذه الهوية التي نستمر في الولاء لها، إما بحكم العادة أو لضعف في الخيال أو بفعل الانصياع، قد تتحول من "تطلع مشروع إلى أداة حرب" مدمرة، وإلى مصدر خطر وتهديد للإنسانية جمعاء، (معلوف: ص: 30)، إذا لم نفلح في لجمها والتحكم فيها. وهو ما يطرح السؤال الصعب: كيف السبيل إلى قهر رغبة هذا "الفهد" الذي يزداد اليوم عنادا وتنطعا؟ وما الذي بمقدورنا فعله بقصد لجم جموحه وجنوحه نحو القتل؟ من المؤكد، أنه إزاء معادلة كهذه لن تجدي الحلول السهلة نفعا: فإذا نحن طاردنا الفهد يقتل، ويقتل أيضا إذا تركناه طليقا، والأسوأ أن نتركه حرا في الطبيعة بعد أن نكون قد جرحناه"؟
وفي أحسن الحالات، لن تعالج إشكالية الهوية "بالاضطهاد والتواطؤ"، كما يقول معلوف، بل "بتفحصها ودراستها بهدوء وفهمها، ثم السيطرة عليها وترويضها، إذا كنا لا نريد أن يتحول العالم إلى غابة"، (معلوف: ص: 165). وهذا يعني، أن الحد من الانحرافات القاتلة للهوية، لن يتأتى بالنبذ والإقصاء، بل بتبادل الاعتراف بين الهويات المتعددة، والإقرار باختلافها.
إن أمرا كهذا، وإن كان يبدو من غير اليسير إنجازه، ليس مستحيل التحقيق في تقدير معلوف. وهو ما يجعله يرى أنه إذا كان من الصعب أن نتوقع من معاصرينا تغيير عاداتهم في التعبير، فعلى الأقل لنبدأ بأنفسنا، ولنغير نظرتنا نحن تجاههم وتجاه ذواتنا أيضا.
"إن نظرتنا هي التي تحتجز الآخرين في انتماءاتهم الأضيق، في أغلب الأحيان، ونظرتنا هي الأقدر على تحريرهم أيضا"، (معلوف: ص: 29)، وهو ما لن يتأتى إلا بالتخلص من الأحكام والتمثلات الهوياتية التي تقيم تفاضلا بين الهويات، وتعتبر هويتها هي الأصل، فيما الأخريات مجرد نسخ وظلال.
بهذا العمق الإنساني والنفس التعليمي الذي يتخلل مجمل صفحات كتاب: "الهويات القاتلة"، يختم أمين معلوف "مغامرته الإنسانية"، بالقول: "في العادة، عندما يبلغ الكاتب الصفحة الأخيرة من كتابه، تكون أمنيته الأغلى أن يظل كتابه يقرأ بعد مائة سنة، أو مائتين… أما فيما يخص هذا الكتاب، فإنني عكس ذلك، آمل أن يكتشفه حفيدي بالصدفة في خزانة العائلة في يوم ما حين يصبح رجلا، فيقلبه ويتصفحه قليلا، ثم يعيده إلى المكان المغبر الذي استله منه، وهو يهز كتفيه مستغربا: كيف أن الناس في زمن جده كانوا ما يزالون في حاجة إلى قول أشياء كهذه"، (معلوف: ص: 143).
عود على بدء:
بعد حصول أمين معلوف على الجائزة، سأله صحافي من قناة "أورونيوز" الإخبارية: "أنت لبناني، مسيحي، وعربي، فرنسي، أوروبي. أي من هذه الهويات أحب إليك؟ فرد عليه معلوف، بالقول: كان يقال في الماضي أن أعرابية سئلت: من أحب أبنائك إليك؟ فقالت المريض حتى يشفى، والغائب حتى يعود. وأقول الشيء نفسه بالنسبة لهوياتي. عندما يكون هناك مشكلات في لبنان فأنا أتألم وأشعر بأني لبناني أكثر، وعندما يكون هناك مشكلات في أوروبا أتصرف كأوروبي".
********************************************
المصادر والمراجع:
1 - Amine Maalouf, Les identités meurtrières.- Paris : Ed. Grasset ; 1998
وللإشارة فقد صدرت ترجمة عربية للكتاب، تحت عنوان: الهويات القاتلة: قراءات في الانتماء والعولمة، ترجمة: نبيل محسن.- دمشق: دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1999، غير أنه شابتها بعض الأخطاء والهفوات، وهو ما جعلنا نعتمد بالأساس النسخة الأصلية بالفرنسية.
2- أنطوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة: فايز صايغ.- بيروت: المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، 2005.
أمين معلوف، الهويات القاتلة، ص: 15
أقيم في الثاني والعشرين من شهر أكتوبر الجاري بمدينة "أوبييدو" الإسبانية، حفل التتويج الرسمي للروائي والمفكر الفرنسي اللبناني الأصل "أمين معلوف"، بمناسبة حصوله على جائزة "أمير أستورياس للآداب" للعام 2010. وتعتبر هذه الجائزة، أرفع درجة في سلم الجوائز التقديرية، التي تمنحها الدولة الإسبانية في ثمانية مجالات إبداعية وفكرية مختلفة. وقد اعتبرت لجنة التحكيم في حيثيات تقريرها، "أن أعمال أمين معلوف المترجمة إلى أزيد من عشرين لغة، تجعل منه أحد أبرز الكتاب المعاصرين الذين سبروا بعمق ثقافة حوض المتوسط، كمساحة رمزية للتعايش والتسامح". وبفوزه بهذا الاستحقاق، ينضم معلوف إلى قافلة كبار الأدباء العالميين، الذين سبق أن حظوا بشرف هذه الجائزة، كالبيروفي "ماريو بارغاس يوسا"، والإسباني "كاميلو خوسي سيلا"، والألماني "غونتر غراس"، والألباني "إسماعيل قاداريه".
ولد أمين معلوف في 25 فبراير سنة 1949 ببيروت. بعد إكمال دراسته في مجالي الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع، وجريا على عادة أسلافه، سيلج عالم الصحافة من بابه الواسع. حيث سيشتغل في هذا الصدد محررا اقتصاديا في جريدة "النهار" اللبنانية. ثم بعدها سيشد الرحال ليستقر بباريس في العام 1976، بعد اشتداد الحرب الأهلية اللبنانية، ليتولى هناك مهمة رئيس تحرير مجلة "جون أفريك" و"إيكونوميا". كما قام أيضا بتغطية أحداث سياسية هامة، مثل حرب فييتنام والثورة الإيرانية، وأنجز أزيد من ستين ربورتاجا في نواحي متفرقة من العالم، قبل أن يتفرغ نهائيا للكتابة الروائية في سنة 1985، بعد النجاح المدوي الذي عرفه كتابه: "الحروب الصليبية كما رآها العرب" الصادر سنة 1983. وقد صدرت له في هذا الشأن، العديد من الأعمال الأدبية والفكرية، نذكر من بينها على الخصوص: "ليون الإفريقي" (1986) و"سمرقند" (1988) وحدائق النور (1991). كما ترجمت أعماله إلى أكثر من عشرين لغة عالمية. ولعل أهم ما يميز أعمال معلوف الروائية، هو أنها تسعى إلى مد جسور التواصل بين عالمي الشرق والغرب، اللذين لا يكف عن إعلان الانتماء إليهما معا، وهو ما أهله للحصول على جوائز عالمية عدة، وخاصة: جائزة "الصداقة الفرنسية العربية" عام 1986، عن روايته "ليون الأفريقي"، وجائزة "غونكور" الفرنسية عن روايته "صخرة طانيوس" عام 1993.
للتعريف ببعض مواقف وأطروحات الرجل الفكرية، نقدم في هذه المقالة، قراءة في كتاب: "الهويات القاتلة"، الذي صدر له سنة 1998 عن منشورات "جراسي" بفرنسا. ويعد هذا الكتاب في نظر العديد من النقاد والدارسين، من بين أهم أعماله الفكرية التي يسائل فيها أمين معلوف بحسه النقدي الرفيع وأسلوبه الرقيق، موضوعات لها راهنيتها اليوم، مثل: الهوية والانتماء والعولمة.
القتل على الهوية: أصل الحكاية
تبتدئ حكاية أمين معلوف مع موضوع الهوية، حين غادر لبنان بلده الأصلي في أحد أيام سنة 1976، هربا من أتون حرب طاحنة لا تبقي ولا تذر. وبعد أن استعر أوار المعارك بين الإخوة الأعداء، وانزلقت من حرب سياسية معلنة إلى حرب طائفية وإلى "قتل على الهوية"، قرر الرحيل بعيدا ليستقر به المقام في فرنسا. ولكن من مفارقات القدر، أن "القتل على الهوية" سيتخذ هذه المرة بعدا رمزيا، حيث سيظل سؤال الهوية يطارده كاللعنة أينما حل وارتحل.
لم يحس معلوف بعقدة الانتماء حين حل بفرنسا، لأنه كان يشعر بالانتماء إليها "بالقوة" من خلال الثقافة، قبل أن يصبح منتميا لها "بالفعل" بحكم الجغرافيا. وقد توطدت هذه العلاقة منذ وطئت قدماه أرض فرنسا، وشرب ماءها ونبيذها، ولا مست يداه أحجارها القديمة، كما يقول. (معلوف، ص: . غير أن هذا "الإحساس بالانتماء" بدأ يتعمق لديه، بل وأصبح يضطهده منذ اللحظة التي سئل فيها، عما إذا كان يحس في "قرارة نفسه"، بالانتماء إلى فرنسا أم إلى لبنان. وكان جوابه البدهي: "إنه يشعر بالانتماء إليهما معا". (معلوف، ص: 7).
لكن جوابا كهذا، لم يكن كافيا ليقنع محدثيه، وهو الذي لم يكن يشك لحظة واحدة في حسن نية سائليه. إذ كان أحيانا، وبمجرد الانتهاء من الاستفاضة في إيراد الأسباب الدقيقة والعميقة التي تحمله على أن يتبنى هذا "الانتماء الكلي" إلى الثقافتين العربية والفرنسية، يفاجأ بأحدهم يتقدم نحوه، وهو يربث على كتفه هامسا: "لقد كنت محقا فيما قلته، ولكن هل هذا ما تشعر به فعلا في قرارة نفسك؟"
مثل هذه الأسئلة "المبتسرة" التي لم يكن يعرها معلوف اهتماما في بداية الأمر، واعتاد أن يقابلها بابتسامة عريضة، أضحت تشكل مع مرور الوقت مصدر إزعاج وقلق لديه. ومع تكرار طرحها بدأ يدرك، أنها ليست من نوع الأسئلة العادية التي يمكن للمرء أن يغض الطرف عنها، بل أسئلة إشكالية أكثر تعقيدا، تتوجب منه مزيدا من الحرص والحذر، كونها تنم في العمق عن تمثلات محددة للهوية. ولعل أحد أخطر هذه التمثلات وأصعبها، تلك التي تعتقد في وجود مظهرين اثنين للهوية: مظهر جلي نعلنه ونبديه في أفعالنا وسلوكنا، وآخر خفي نداريه ونحجبه في دواخلنا وسرائرنا.
وهكذا فعندما نسأل عما نحن إياه في قرارة أنفسنا، يقول معلوف متبرما، فهذا معناه أن لكل إنسان قرارة نفس، انتماء واحدا مهما، يشكل "حقيقته" العميقة بشكل ما، هي التي يتحدد في ضوئها جوهره منذ الولادة مرة واحدة وإلى الأبد، دون أن يتغير أبدا. كما لو أن الباقي، كل الباقي، أي مسيرته كرجل حر، وقناعاته المكتسبة، وتفضيلاته، وحساسيته الخاصة، وميوله، وحياته كمحصلة، لا تهم في شيء. وعندما نحث معاصرينا على تأكيد هويتهم مثلما نفعل اليوم في أغلب الأحيان، فما نقصده هو أن عليهم أن يجدوا في أعماقهم ذلك الانتماء الأساسي المزعوم، الذي غالبا ما يكون دينيا أو قوميا أو عرقيا أو إثنيا، ليرفعوه في وجه الآخرين". (معلوف، ص: 9)
هذه المواقف جعلت أمين معلوف يعيد صياغة السؤال حول الدلالات الحقيقية والأبعاد الكامنة وراء حاجة الناس إلى الانتماء الجماعي، ثقافيا كان أم دينيا أم وطنيا؟ وعن الدواعي من وراء هذه الرغبة الشرسة، والمشروعة في تأكيد الذات، التي تقودهم إلى الخوف من الآخر والسعي إلى إلغاء حقه في الوجود؟ أي بعبارة: التساؤل حول مفهوم الهوية وانزلاقاته القاتلة.
في نقد التصور القبلي tribale للهوية:
لم يكن معلوف وهو يخوض في هذا الموضوع يقلل من حجم المشكلات التي قد تعترضه، بل كان يعي جيدا، أن مفهوم الهوية يعتبر من بين أكثر المفاهيم تعقيدا، ليس لكونه يصر بعناد على الانفلات من التحديد والضبط، بل لكونه أصبح اليوم أقل استقرارا، لدرجة غدا من الصعب مقاربته وتأطيره من دون استحضار بعدي الزمان والمكان. ذلك أن الهوية بشكل عام، تتعلق بأفهام الناس وتمثلاتهم لذواتهم، ولما يعتقدونه مهما في حياتهم، وتتشكل انطلاقا من خصائص محددة، تتخذ مرتبة الأولوية على غيرها من مصادر المعنى والدلالة. (أنطوني غدنز، ص: 90).
غير أن الهوية، في مستواها الفردي و الجماعي، وإن كانت تشير في دلالتها العامة، إلى الطريقة التي نعي بها ذواتنا، ونرسم من خلالها صورة متميزة لما نكونه، ولما تكونه علاقتنا مع العالم من حولنا، فإن هذه النظرة التي نحملها عن أنفسنا وعن الآخر، ليست معطاة بشكل قبلي ونهائي، بل هي متحولة وتتشكل عبر التاريخ وتغتني من خلال التجارب. (أنطوني غدنز، ص: 91).
ومن ثم، يعلن معلوف رفضه التصور التبسيطي والقبلي الذي يختزل مفهوم الهوية بردها إلى مبدإ واحد وثابت، معتبرا أن الهوية، فردية كانت أم جماعية، ليست معطى فطريا استاتيكيا، يعطى دفعة واحدة وإلى الأبد، بل إنها تتشكل على الدوام، وتتحول على طول الوجود. وهو ما يجعل من الهوية بالضرورة، مفهوم مركبا ومتعددا، كونه لا يحيل على انتماء واحد، بل عن مجموعة من الانتماءات التي قد تتفاوت في تراتبها من حيث الأهمية، وتشي بدلالة ما، وهذه الانتماءات المتعددة هي التي تعطي للشخصية الفردية والجماعية في النهاية، غناها وقيمتها الخاصة. وهذا الأمر لا ينطبق على الهوية الجماعية فحسب، بل ينسحب أيضا على الهويات الفردية للأشخاص، ويؤثر في تحديد الاختلافات والفروقات بين الجنسين أيضا. ومن هنا تبرز أهمية الدور الذي يلعبه المحيط الاجتماعي في رسم التمثلات الذهنية وتكييف المواقف لدى الأفراد، وفي "تحديد معنى الانتماء" لديهم. "فأن تولد الفتاة في كابول أو أوسلو ليس له المعنى ذاته. فهي لا تحيى أنوثتها بالطريقة ذاتها، ولا أي عنصر آخر من هويتها". (معلوف: ص: 31)، وهو ما يذكرنا بقول سيمون دو بوفوار المأثور: "إننا لا نولد نساء، بل نصير كذلك".
إن الإقرار بهذا التنوع والتعدد في الانتماء، بحسب معلوف، يصبح عامل خصب وغنى، إذا أحسنت البشرية استثماره بشكل جيد. ولكنه قد يتحول بالمقابل إلى تعصب وتطرف أعمى و"مصدرا محتملا للصراع بين الناس"، حين يتم اختزاله قسرا داخل هوية واحدة كاملة مطلقة متعالية، تدعي تفوقها على الجميع، ونزوعها القوي للهيمنة على باقي الهويات الأخرى… أي حين تتحول إلى "هوية قاتلة".
في مفهوم الهوية القاتلة:
يعني معلوف بهذا المفهوم، ذاك النزوع من الوعي والتفكير، الذي يختزل الهوية بردها إلى مصدر واحد، ويجعل الناس في موقف متحيز ومذهبي ومتعصب ومهيمن، وأحيانا انتحاري، ويحولهم في الغالب الأعم إلى قتلة أو إلى أنصار للقتلة. (معلوف، ص: 39).
ولعل هذا ما جعل معلوف ينطلق في بناء تصوره لمفهوم "الهوية القاتلة" من سؤال أساسي قد يبدو للوهلة الأولى بدائيا، أو على الأقل مكرورا، ويتلخص هذا السؤال كالتالي: ما الذي يجعل الناس اليوم يرتكبون جرائمهم باسم هوياتهم، سواء كانت هذه الهوية دينية أو إثنية أو قومية أو غيرها؟ وما الذي ينبغي فعله، حتى نحول دون أن تتحول شريعة القتل باسم الدفاع عن الهوية، إلى نوع من الدفاع المشروع؟
يجيب معلوف بالقول: إن كل شخص من دون أي استثناء، يتمتع بهوية مركبة، يكفيه أن يطرح بضعة أسئلة ليستخرج كسورا منسية وتشعبات لا شك فيها، وليكتشف أنه مركب وفريد وغير قابل للاستبدال (معلوف: ص: 28)، وهذا هو بالضبط ما يشكل هوية كل فرد، فيجعل من الواحد قاتلا، ومن الآخر رجل حوار ووفاق. (معلوف: ص: 29).
إن هذه الهوية التي نستمر في الولاء لها، إما بحكم العادة أو لضعف في الخيال أو بفعل الانصياع، قد تتحول من "تطلع مشروع إلى أداة حرب" مدمرة، وإلى مصدر خطر وتهديد للإنسانية جمعاء، (معلوف: ص: 30)، إذا لم نفلح في لجمها والتحكم فيها. وهو ما يطرح السؤال الصعب: كيف السبيل إلى قهر رغبة هذا "الفهد" الذي يزداد اليوم عنادا وتنطعا؟ وما الذي بمقدورنا فعله بقصد لجم جموحه وجنوحه نحو القتل؟ من المؤكد، أنه إزاء معادلة كهذه لن تجدي الحلول السهلة نفعا: فإذا نحن طاردنا الفهد يقتل، ويقتل أيضا إذا تركناه طليقا، والأسوأ أن نتركه حرا في الطبيعة بعد أن نكون قد جرحناه"؟
وفي أحسن الحالات، لن تعالج إشكالية الهوية "بالاضطهاد والتواطؤ"، كما يقول معلوف، بل "بتفحصها ودراستها بهدوء وفهمها، ثم السيطرة عليها وترويضها، إذا كنا لا نريد أن يتحول العالم إلى غابة"، (معلوف: ص: 165). وهذا يعني، أن الحد من الانحرافات القاتلة للهوية، لن يتأتى بالنبذ والإقصاء، بل بتبادل الاعتراف بين الهويات المتعددة، والإقرار باختلافها.
إن أمرا كهذا، وإن كان يبدو من غير اليسير إنجازه، ليس مستحيل التحقيق في تقدير معلوف. وهو ما يجعله يرى أنه إذا كان من الصعب أن نتوقع من معاصرينا تغيير عاداتهم في التعبير، فعلى الأقل لنبدأ بأنفسنا، ولنغير نظرتنا نحن تجاههم وتجاه ذواتنا أيضا.
"إن نظرتنا هي التي تحتجز الآخرين في انتماءاتهم الأضيق، في أغلب الأحيان، ونظرتنا هي الأقدر على تحريرهم أيضا"، (معلوف: ص: 29)، وهو ما لن يتأتى إلا بالتخلص من الأحكام والتمثلات الهوياتية التي تقيم تفاضلا بين الهويات، وتعتبر هويتها هي الأصل، فيما الأخريات مجرد نسخ وظلال.
بهذا العمق الإنساني والنفس التعليمي الذي يتخلل مجمل صفحات كتاب: "الهويات القاتلة"، يختم أمين معلوف "مغامرته الإنسانية"، بالقول: "في العادة، عندما يبلغ الكاتب الصفحة الأخيرة من كتابه، تكون أمنيته الأغلى أن يظل كتابه يقرأ بعد مائة سنة، أو مائتين… أما فيما يخص هذا الكتاب، فإنني عكس ذلك، آمل أن يكتشفه حفيدي بالصدفة في خزانة العائلة في يوم ما حين يصبح رجلا، فيقلبه ويتصفحه قليلا، ثم يعيده إلى المكان المغبر الذي استله منه، وهو يهز كتفيه مستغربا: كيف أن الناس في زمن جده كانوا ما يزالون في حاجة إلى قول أشياء كهذه"، (معلوف: ص: 143).
عود على بدء:
بعد حصول أمين معلوف على الجائزة، سأله صحافي من قناة "أورونيوز" الإخبارية: "أنت لبناني، مسيحي، وعربي، فرنسي، أوروبي. أي من هذه الهويات أحب إليك؟ فرد عليه معلوف، بالقول: كان يقال في الماضي أن أعرابية سئلت: من أحب أبنائك إليك؟ فقالت المريض حتى يشفى، والغائب حتى يعود. وأقول الشيء نفسه بالنسبة لهوياتي. عندما يكون هناك مشكلات في لبنان فأنا أتألم وأشعر بأني لبناني أكثر، وعندما يكون هناك مشكلات في أوروبا أتصرف كأوروبي".
********************************************
المصادر والمراجع:
1 - Amine Maalouf, Les identités meurtrières.- Paris : Ed. Grasset ; 1998
وللإشارة فقد صدرت ترجمة عربية للكتاب، تحت عنوان: الهويات القاتلة: قراءات في الانتماء والعولمة، ترجمة: نبيل محسن.- دمشق: دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1999، غير أنه شابتها بعض الأخطاء والهفوات، وهو ما جعلنا نعتمد بالأساس النسخة الأصلية بالفرنسية.
2- أنطوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة: فايز صايغ.- بيروت: المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، 2005.
رد: ضلال الهويات المجنونة: في نقد الهوية والانتماء عند أمين معلوف
الهويات: « قاتلة أم حامية »؟
قراءة في الإنتماء والعولمة..
فائز البرازي ـ عندما كتب / أمين معلوف / مخطوطته ( الهويات القاتلة ) ، كانت قراءتها ملامسة لحدود الإجتماع السياسي من خلال النزوع الإنساني إلى " إنتماء " من جهة ، وكشهادة منه تعبر عن طموح مشروع نحو الأخوة الإنسانية. وكلا الأمرين يجتمعان ويفترقان. فالهوية للفرد الإنسان وتالياً للجماعة، إما أن تعيش التعصب والإنغلاق والأفق الضيق، أو تعيش إنفتاحها بما هي عليه توجهآ نحو تكاملها مع " الآخر " في الإنتماء الإنساني العام .
هذه المخطوطة / الرأي ، وجدت طريقها كأوضح ماتكون عليه ، من الواقع الذي تعانيه المنطقة. فتحولت – بالنسبة لي على الأقل – من نظرة فلسفية ، وملامسة لحدود العلوم الإجتماعية ، إلى صورة حية نعيشها هنا في شرق وجنوب المتوسط .
الهوية / الإنتماء .. وتفاعلها مع العولمة / الإنفلاش .. يشكلان نقيضين كان يجب أن لا يكون .
فالهوية / الإنتماء – وليس البطاقة الشخصية – هي مجمل متفاعل لهويات جزئية متعددة تعيش في جدلياتها لتفرز هوية / إنتماء أكثر رحابة وشمولية وعمق ، من جزئيات متنافرة لما قبل تكون المجتمعات .
هويتنا .. هوية مركبة ولابد أن تكون كذلك في تعبيرها عن الإنتماءات الجزئية المُرَكِبة للهوية العامة . الإنتماء إلى : الأسرة ، العائلة ، الدين ، الطائفة ، الشريحة الإجتماعية ، الأحزاب ، الدولة ، العروبة ، العالم . عدد من الإنتماءات يمكن أن يتوسع أكثر أو يتقلص . لكن أسوأ مافيه أن تتحول الهوية / الإنتماء إلى صورة تعصبية لجزء من الهوية الأشمل ، حيث تُزال وتُغيّب كل الإنتماءات الأوسع المؤدية إلى التعايش والترابط ووحدة النسيج ، فتتقوقع وتنعزل تلك الإنتماءات الإحتكارية وتصبح حتمآ في مواجهة كل الآخر .. رفضآ وصراعآ وتصادمآ .
والمهم في الإنتماء هو الصعود الفعال وعلاقته الجدلية البناءة وإنفتاحه على الآخر ، ليتواجد ضمن حلقات أساسية في الفعل والتعاون والعطاء الإجتماعي والسياسي والإقتصادي ، وضمن " حس التوافق الإجتماعي " الذي سيفرز بعموميته إنتمائه للجماعة ، مواقف ورؤى هذه الجماعة في بيئتها الإجتماعية ، دون توقف كبير للتفكير في تلك المواقف والرؤى بحد ذاتها .
وحتى اليوم وضمن فكرة الوحدة والتوحد ، يسود العالم والشعوب توجهين أساسيين :
1- البحث عن وسيلة لتثبيت الهوية الوطنية والقومية الخاصة : تقوية وتعزيز وتنمية .
2- النزوع إلى تخطي عصر الوطنيات والقوميات ، وصولآ إلى عصر العولمة .
وفي كلا التوجهين هناك نزوع إلى الإرتقاء المجتمعي الإنساني نحو التكامل والكمال . بينما نتابع ونشاهد على الأرض إنسحابآ ونزوعآ نحو التفتيت والتشرذم والتعصب والصدام بما يعيد المجتمعات إلى ماقبل الدولة وما قبل القبيلة . إنغلاقآ وصدامآ : إثنيآ وطائفيآ وعشائريآ .
فكيف حدث هذا التراجع ، وأين هي المشكلة ؟.
أكاد أعتقد بأن سبب هذا التراجع / المشكلة ، يعود أساسآ إلى دخول عصر جديد بمتغيراته : الثقافية والإجتماعية والإقتصادية والعلمية والعسكرية ، قبل أن " تستنفذ " قوى العصر السائد وظائفها وأدواتها ومعطياتها . وبالتالي يمكن النظر إلى المشكلة إنطلاقآ من :
1- نمو وتزايد وتأثير العوامل العلمية والتكنولوجية والإقتصادية ، في تحديد مكانة الدول بالعالم في حقل الصراعات والعلاقات الدولية ، مقابل : قصور وتضاؤل عناصر القوة التقليدية للدولة .
2- تآكل مجال السيادة الوطنية نتيجة إختراقات لصالح الدول الكبرى المهيمنة على وسائل وأدوات العولمة ومساراتها .
فدخول عصر جديد بمتغيراته .. ( عصر العولمة ) الذي شكل " الثورة الثالثة " التي دخلتها المجتمعات البشرية بعد الثورة الزراعية ، والثورة الصناعية . هذه ( الثورة الكونية الثالثة ) كما يشير إليها أنصار الحداثة ، كان لها بداياتها العميقة التأثير في الواقع الثقافي أولآ . والذي يشتمل بأساسياته ثورة في مفاهيم " معنى الوقت " ، و " معنى المكان " حيث تعيش فيهما المجتمعات البشرية منذ وجودها ، ويشكلان أساسآ لها في تعاطيها مع كل المحيط الخارجي ، والمحيط الداخلي / النفس البشرية .
فعندما تتغير ( مفاهيم أساسية وهامة ) مثل مفهوم الزمن ومفهوم المكان ، فإن هذا التغيير المطروح لابد من أن يكون له أثرآ يستحق التوقف عنده وإجراء مراجعة فيه .
وأكاد أرى أن أهمية التوقف والتساؤل في ذلك ، ينبع من إنعكاس المفعول الواقعي على الأرض والحاصل أمامنا . فالسرعة الحاصلة في التغيير ، تجعل الإنسان لايستطيع تمثل هذا " النمط الجديد " ولايستطيع بسهولة إستيعابه ، وبالتالي يصعب عليه أن ينافسه بما هو عليه من " أنماط قديمة " . وهذه الصعوبة في الحركة ضمن الموازين البشرية لم تحدث فقط بين الدول ، بل حدثت – وهذا أهم – داخل مجتمعات الدول .
فالعنصر البشري هو دائمآ ( العنصر الفاعل ) من ناحية ، وهو أيضآ ( العنصر المتلقي ) من ناحية أخرى ، في جدلية قائمة محققة . فهو – العنصر البشري – فاعل ومفعول به في ذات الوقت . والعنصر البشري بما نحن عليه هنا ، إنبهر بإنجازات التكنولوجيا وتطوراتها ، وإزدادت قوى دفعها دون قواعد ودون كوابح إنسانية ، وصولآ إلى اللعب على أوتار " غرائز الإنسان" ، ومن أبسطها : الإستسهال والإستعجال ، إلى أقواها : المال والتملك والسيطرة والجنس .
فتوسعت دوائرها وأضيفت لها قوى دفع أكبر وأكبر .
وتراكميآ .. تضاعفت جاذبية كل هذه المجالات ، ودفعت " الجميع العولمي " إلى تطوير المنتج وإغراء المستهلك ، فكانت النتيجة السيئة والخاطئة ، أن إمتزج التفكير والواقع ، بالخيال والأحلام ، وتداخلت مفاهيم الخير مع مفاهيم الشر ، وذابت الأخلاقيات وتعالت " حدة الذاتية " لدى البشر ، فتسطحت الإنسانية ، وتخدرت الضمائر ، وتحجرت المشاعر ، مع حدوث " تغيير نوعي " في حياة الناس وأسلوبها ، شاملآ الفكر والمشاعر والإنتماءات .
وقد كانت مظلة كل هذا .. الهيمنة العالمية العولمية في كل نواحيها : العسكرية ، والتكنولوجية ، والعلمية ، مقابل قصور فاضح وضعف لعناصر الدولة الوطنية ومجتمعها .
في الهوية الوطنية :
-------------------
بداية لابد من التوضيح والتقرير بناءآ على معطيات الواقع ونتائج الوعي والبحث ، أن هناك (تشابكآ وتكاملآ ) بين هويات أساسية المرتكزات بما تشكله من هوية متناغمة ومنسجمة إجتماعيآ وثقافيآ وإقتصاديآ وتاريخيآ وجغرافيآ ، هي : ( الهوية الوطنية القومية الإسلامية ) ، بثباتها وجوهرها .
فالهوية الوطنية لاتصطدم مع الإنتماء القومي والعقيدة الإسلامية الحضارية . بل هي أساس واقع يبنى عليه وصولآ للمجال الأرحب القومي والإسلامي .
والهوية القومية ماهي إلا الجسد الأكبر الذي يضم ضمنآ الهويات الوطنية الأعضاء ، فلا يستقيم وجود إحداها بدون الأخرى .
والهوية الإسلامية كعقيدة وحضارة ، هي روح ذاك الجسد ، تعطيه المرجعية الروحية والمادية ، وتكون جامعة منسقة في تعامله مع الآخر القومي والإنساني .
والأمر هنا يقتضي منّا الوقوف عند " مفاهيم ومضامين الهوية الوطنية " .
ان مفهوم الهوية الوطنية بركيزته الأساسية التي تبنى عليها الهوية هي : ( الثقافة ) . على أن هذا المفهوم لايبقى محصورآ ومقيدآ بذلك الأساس ، إنما ينطلق منه إلى مفهوم أرحب يرتبط بالجوانب : الفلسفية ، وعلوم الإجتماع ، والموقف من الآخر الذي لولاه لما كان هناك " هوية خاصة" .
والهوية بكونها : [ مفهوم ذهني ] أولآ ، و [ وجودآ محسوسآ ] ثانيآ "1" ، يتزايد الهاجس بها أكثر ويتعمم في أبعاده ، في أوقات الأزمات التي تمر بجماعة ما ، وأحيانآ في أوقات التفوق الكاسح الذي تعيشه جماعة ما . بحيث يكون لهذا الإنتماء / الهوية أساسآ قويآ متمايزآ في ثقافته عن الآخر .
والثقافة عمومآ : ماهي إلا فلسفة جماعة ما ، ونظرتها إلى الوجود من حولها ، لتكوّن مجمل العقائد والقناعات من : دين ولغة وفن وعادات وسلوك ومعرفة . والثقافة عبارة عن :
[ تلك المعايير المشكلة لنظام العقل والسلوك في مجتمع ما ، أو لدى جماعة ما ، والتي تحدد نظرة الفرد والجماعة لنفسها وللآخرين . إنها ذلك الكل المركب الذي يتضمن : المعرفة ، الإيمان ، الفن ، الأخلاق ، القانون ، الأعراف ، وأية قدرات وعادات يكتسبها الإنسان بصفته عضوآ في جماعة ] " 2" .
بحيث تمنح في مجموعها ( المعنى ) لتلك الهوية ، وتكون إنعكاسآ لتلك الفلسفة المعاشة لهذه الجماعة أو تلك . فهي " وعي بالذات " ، ومعيار تعامل مع " الآخر " ، وبكل مايدفع هذا الوعي بالذات من خلال تفاعلاته الذاتية أو تفاعلاته مع الآخر ، أو تفاعلاته مع الزمان والمكان ، نحو مايمكن تسميته " بالمتغير التاريخي والمجتمعي " ، تطورآ إلى الأمام ، أو إنكماشآ وتقوقعآ وردة نحو الوراء .
وفي مايقارب هذا ، يقول / زكي نجيب محمود / عن الهوية والثقافة :
[ حين تكون الثقافة المعينة منسابة في عروق الناس ودمائهم ، فحياتهم هي ثقافتهم ، وثقافتهم هي حياتهم . لاحين تنسلخ عن الحياة ليضطلع بها محترفون يطلقون على أنفسهم إسم المثقفين ، ولا يحدث إنسلاخ كهذا – فيما أظن – إلا حين تكون الثقافة وافدة إلى الناس من الخارج ، لامنبثقة من نفوسهم . ] " 3"
بين الوطني و القومي :
----------------------
يطرح عادة تساؤل محق ومشروع : ماعلاقة الهوية الوطنية ، بهوية الأمة ؟
وهل يمكن للهوية الوطنية أن تبقى محافظة على ذاتها ومقوماتها الأساسية دون سند من مرجعيات الأمة اللغوية والعقيدية والتراكم التاريخي والحضاري ؟ "4" .
أكاد أعتقد بضرورة تجاوز الخلل الإشكالي القائم بين : البعد الوطني ، والبعد القومي . فهو إشكال " مصطنع " – كما أدّعي – ليس له مستندآ ذهنيآ أو حسيآ . بل أن الحالة الذهنية ، والحالة الحسية المصلحية ، تنفي أن يكون هناك خلل موضوعي بين الهوية الوطنية والهوية القومية . وهذه الإشكالية " المصطنعة " كان سببها : الرومانسية القومية من جهة ، والذاتية القطرية المنغلقة من جهة أخرى .
" فالرومانسية القومية إنطلقت من رفض كل دولة وطنية ، وأذابت الوطني في مفهوم العروبة التراثي والوجداني ، ونسيت أن تلتفت إلى أن الوطني في " غياب " القومي ، ضرورة ملحة . وأنه من الغباء إنتظار ماهو قومي ، حتى نبني أوطاننا بشكل قومي وجمعي " "5" .
وبالتالي فإن تحديث التوجه والفكر الآن ، لابد أن يستوعب أن التعدديات الوطنية في التكوين الجغرافي والمجتمعي والسياسي ، لها جذورها وبناها التقليدية والمعاصرة . وإنه لأكثر نجاعة عند التوجه القومي العربي الوحدوي ، أن تقارب هذه التعدديات الوطنية : معرفيآ وموضوعيآ ، من أجل تشخيصها ومعالجتها وتحديد السبل الفعالة لتطويرها إيجابيآ والتقريب فيما بينها قوميآ. وعندما نحتكم إلى الجغرافيا والتاريخ ، نجد :
(ان التجزئة السياسية كانت تعبيرآ عن تعددية البنى المجتمعية الداخلة في النسيج الإجتماعي البشري الإقتصادي العام للمنطقة العربية ، والذي كون بطبيعته نسيجآ مركبآ وتراكميآ على مدى عصور طويلة ، وكان عرضة مستمرة للغزوات الرعوية من داخلية عربية ، وخارجية أعجمية . الأمر الذي لم يتح " للجسم العربي الواحد " ، وللنسيج العربي الواحد ، تلك العزلة السعيدة لفترة من التاريخ ، لينصهر في بوتقة عضوية واحدة ، ويُذَوّب بناه المتعددة بصيغة مستقرة في بنيته الموحدة الشاملة . ) "6" .
وفي المقابل .. إعتقد بعض العرب وخاصة من هم في مراكز القرار ، أن العمل على إضعاف الهوية العربية ومحاولتهم التهرب من الإنتماء للعروبة ، سيعمل على دعم وتقوية الهوية الوطنية / الإنتماء .
وهنا يجب أن نعي خطورة هذا الطرح ، خاصة وأرضنا وشعبنا العربي يرزح تحت الإحتلالات والتدمير ، ويعايش أخطر التحديات الوجودية التي تمس وحدة نسيج المجتمعات العربية ، وسرقة ثرواتها ، دون أي درع قومي محسوس على جميع صعد ( الأمن القومي العربي ) : فكريآ وثقافيآ وسياسيآ وتنمويآ وإقتصاديآ وعسكريآ ، يحمي ويحصن ويدفع الواقع المزري إلى مستقبل أفضل . إن ضرورة إستمرار البحث والتحليل ، سيوضح لنا دائرة التخلف والضعف هذه ، الناجمة عن بعض الرؤى والمحاور :
المحور الأول : - فشل الدولة القطرية مهما بلغت ثروتها الوطنية ، وأيآ كان مذهبها الإقتصادي ، ومهما كانت تجاربها التنموية ، وإختياراتها لإستراتيجيات تخطيط أو تصنيع أو تنمية ، قد فشلت ليس في تجاوز تخلفها القطري وتحقيق إنطلاق قوي بإتجاه التقدم فحسب ، بل فشل هذا النموذج القطري حتى في إحداث إصلاح إقتصادي يصحح الهياكل الإنتاجية ، ويقلل درجة الإعتماد على الخارج . ومن ثم يحقق التوازن في المعادلة الصعبة الشهيرة : كيفية تحقيق الزيادة في الإنتاج ، وفي الإستهلاك ، وفي الإدخار ، في آن معآ ؟
المحور الثاني : - أثبتت التجربة وخاصة خلال العقود الثلاثة الماضية ، أن إغفال الخيارات القومية ، وتراجع وإرتباك النظرة إلى مفهوم ( الأمن القومي العربي ) بأبعاده الشاملة ، تحت وطأة سيادة مفهوم ( الأمن القطري ) ، والتفريط في هدف التنمية الشاملة والمستقلة ، كل ذلك أدى إلى تهميش دور الإقتصاديات العربية من جهة ، ثم إندماجها في السوق الرأسمالي العالمي من مواقع التبعية ، وليس من مواقع الإستقلال والإبداع والإضافة ، من جهة ثانية . فإنحصر دور الإقتصاديات العربية ، وإنحصر دور الدولة القطرية ، في إنتاج المواد الخام ، وتوفير العمالة الرخيصة ، ثم التحول إلى مستهلك نشط لإنتاج النظام الرأسمالي العالمي .
المحور الثالث : - وقوع أغلب الدول العربية بما فيها الدول المنتجة للبترول ، في مصيدة الديون للخارج . والتي مالبثت تلتهم أية فوائض أو زيادات في معدلات الناتج المحلي لتلك الدول . وأصبحت تلك الديون تمثل أكبر عائق في طريق تحقيق التنمية المستقلة أو الإستقلال التنموي ، فضلآ عما تفرضه من قيود على الإرادة السياسية في صنع القرار الوطني للدول المدينة .
المحور الرابع : - إضافة إلى ماتقدم ، نجد مفارقة كبيرة .. ففي الوقت الذي تسعى فيه أوروبا لخلق منظومة إقتصادية أوروبية واحدة وصولآ إلى منظومة سياسية واحدة ، فإن ذلك يقابله على الصعيد العربي فرقة وتمزقآ وصل حد الإنهيار .
الوطني والقومي ، والدين :
---------------------------
أكاد اجزم أن هذه الهوية المتساوقة والمدمجة بتركيبتها الثلاثية : الوطنية ، القومية ، الإسلام ، هي من الهويات البنائية ذات نسيج مجتمعي متناغم التركيب في الأخذ والعطاء .
وأدّعي أن هذه الصورة الذهنية والحياتية المعاشة ، هي التي دفعت إلى إفراز فكر ووعي منذ قرن من الزمان ، ساد وإنتشر مواجهآ لواقع سياسي وإجتماعي وثقافي ، فرضته إصطناعآ وقسرآ قوى الإستعمار والتقسيم والتغريب الثقافي .
هذا الإفراز الفكري والوعيي داخل المجتمع ، شكل هويته الجامعة ولكل فئاته ومكوناته بحيث أضحت هذه الثلاثية : الوطنية ، القومية ، الإسلامية ، مستقرة إلى حد كبير على أسس حديثة تتجاوز واقع سبق فرضه بكون :
* الوطنية : هي المرتكز في إعادة بناء القوة البنائية والدفاعية في المجتمع والدولة ، وهي الدافع الذي يؤدي إلى تماسك الأفراد وتوحدهم ، وإلى ولائهم للوطن وتقاليده والدفاع عنه ، وهي التي ستؤدي إلى تماسك الدولة الوطنية وخلق قوتها .
* القومية : وهي السياج والدرع الشامل الحامي للوطنيات في مسارها نحو تحقيق إندماجها : المجتمعي والإقتصادي والسياسي والعسكري . وهي العاكسة لأفكار وتصورات تجعل من الوطن الكبير بشعبه ( قيمة إجتماعية ) أساسية ، تعمل على زيادة ولاء الفرد لهذا الوطن ، الولاء المستند على الشعور بالمصير والأهداف والمسؤوليات المشتركة والمصالح الجمعية لجميع مواطني هذا الوطن الكبير .
* الإسلام : هو روح هذه الأمة والمشكل الحضاري لجميع فئاتها ومكوناتها وأفرادها .
ان هذه الأسس التي تجسد هوية أمة معروفة بتدينها الفطري ، تطرح حركة تغيير شامل في المجتمعات العربية ، بعيدآ عن الجهل والخرافة والتحريف . ولتقود هذه الحركة ذات الهويات البنائية ، الأمة في معارك توحيد أشلاء الأمة ، وفي بناء المجتمع الذي تسوده قيم الحرية والعدالة والحداثة . وترى في الدين الإسلامي ( إرث حضاري وثقافي ) وعنصر تكوين أساسي في هويتها ، وهو ملك لكل أفرادها وقواها المسلمة والغير مسلمة ، ولا يحق لأية فئة أن تدّعي إمتلاكه أو إستخدامه ستارآ لتحقيق أيآ من أهدافها الخاصة .
إن الهوية التي تستبعد الدين من المجتمع ، أو تغيّب الفهم الصحيح للدين والفقه المذهبي وللعلاقة مع الآخر أيآ كان ، تتحول – تلك الهوية – إلى هوية قاتلة ، في خلقها المناخ المناسب لأي صراع طائفي أو مذهبي ، يُحَول ماهو إيجابي قائم على الإختلاف والتعدد ، إلى عنف دموي يناقض جوهر الرسالات السماوية .
إن علينا جميعآ مسؤولية إعادة مراجعات كثيرة أصبحت مطلوبآ عربيآ في هذا الوقت بالذات ، والأمة تتعرض لمحن كثيرة تمس وجودها وحريتها وأمنها وثرواتها ومستقبلها . وان أهم هذه المراجعات وما إرتبط منها في طرحنا هنا ، هو إعادة الوعي لما تشكله هويتنا الوطنية الجامعة من أهمية حياتية ..
إن ضبابية الهوية الوطنية أو ضعفها ، سيشكل مخاطر متزايدة تمس مجتمعاتنا . منها : "7"
1- فتح الأبواب لصالح هيمنة إنتماءات ضيقة منغلقة تخترق النسيج الإجتماعي الواحد ، وتؤدي إلى ضعف البناء السياسي والدستوري الداخلي ، فيصبح " الوطن " ساحة صراع على مغانم ومكاسب سياسية أو شخصية ، بعيدآ عن مصلحة الإنتماء الوطني الواحد .
2- ان ضعف الهوية الوطنية يشكل تعبيرآ عن الفهم الخاطئ للإنتماءات الأخرى التي تتراوح في إنتماءات ماقبل الدولة ، من إنتماءات : دينية مختلفة ، أو إثنية ، أو قبلية . فتتحول إلى خلافات عنيفة وصراعات دموية تتناقض تمامآ مع " حكمة الإختلاف والتعدد " .
3- كما أن ضعف الهوية الوطنية الجامعة ، قد يكون مدخلآ للتدخل الخارجي ، بل وللإحتلال الإستعماري . حيث تنساق كل طائفة أو مذهبية أو فئوية على ضعفها ، للإستقواء والتعامل مع أي قوة أو جهة خارجية من أجل مواجهة الإنتماءات الأخرى في الوطن الواحد . "
من تلك المخاطر المحيقة بالمجتمع والوطن ، يصبح ( تعزيز الهوية الوطنية الجامعة )ضرورة أصيلة وهامة ، بما يجب ان يرافقها من إعادة الإعتبار وتقوية ودعم " مفهوم العروبة " على المستوى العربي الشامل ، لتصبح ( العروبة الثقافية ) الجامعة لكل العرب هي حجر الزاوية المنشود لمستقبل أفضل ، داخل البلدان العربية ، وبين بعضها البعض . فالعودة إلى العروبة الآن ، هي حاجة قصوى لحماية المجتمعات من الداخل ، وتحصينها من هيمنة الخارج ، ولمواجهة ندية مع " مشروع العولمة ط ، ولبناء أسس سليمة لتعاون عربي مشترك وفعال .
إنها دعوة للعودة إلى أصالة هذه الأمة ودورها الحضاري والثقافي الرافض للتعصب وللعنصرية.
الهوية الوطنية ، والعولمة :
الإمارات العربية المتحدة / نموذجآ
---------------------------------
عندما تترسخ الهوية الوطنية ، وتستكمل بناءها وتستقر على أساس المواطنة الكاملة ، فإنها بالطبيعة المجتمعية والإنسانية تنزع إلى تكامل أكبر يحقق لها مزيد من وحدة النسيج الإنساني ، ويحقق أكثر متطلبات التقدم والإزدهار .
لكنه وفي واقع الحال الكوني اليوم ، نجد أن " طارئآ ومسارآ إنسانيآ " في ذات الوقت قد طرح نفسه في العالم . فالتطورات التي مازالت تتلاحق بوتيرة عالية في جميع المجالات العلمية وخاصة في تقنية المعلومات والإتصالات وما تؤدي إليه من قفزات هائلة في كل مناحي الحياة ، خلقت واقعآ عالميآ جديدآ تمثل بما سمي ( عصر العولمة ) . ونقصد هنا العولمة في أبعادها الثقافية والإقتصادية والإجتماعية اساسآ ، مع مايلحقها من بعد " سياسي ايديولوجي " .
وبعيدآ عن التعاريف والمصطلحات ( لظاهرة العولمة ) التي أطلق فيها أكثر من رأي : العولمة – الكونية – الكوكبية – القولبة - .. فإن هذه الظاهرة بشكلها العام أصبحت تعني : "8"
[ توحيد العالم وإخضاعه لقوانين مشتركة تضع حدآ فيه لكل أنواع السيادة . وقد بدأت مظاهر هذا الإتجاه منذ ميلاد الشركات المتعددة الجنسيات ، لتصل اليوم إلى نظام التجارة الحرة بعد مفاوضات " الجات " ، ووقع التعبير عنه مؤسسيآ في " منظمة دولية " تحمل الإسم ذاته ، وفي قوانين وتدابير سيلغي مفعولها القوانين المرعية في الدول الوطنية ] .
وتحاول العولمة – كنتيجة – فرض نمط حياة شاملة بما في ذلك الثقافة والعلاقات الإجتماعية وأنماط الإستهلاك والقيم وأسلوب الحياة وأنماط التفكير والتنظيم الإجتماعي والسياسي .
" فأخطر آثار العولمة هو مايتصل بإقتحامها للبنى الثقافية والحضارية لشعوب العالم تحت دعوى التوحد الثقافي . فذلك سيؤدي إلى تصدع الهوية الثقافية في بلدان العالم التي تتأثر بالعولمة . وقد ينتج من هذا مايسمى ( بالصراع القيمي ) بالإضافة إلى إضعاف عاطفة الإنتماء . وأخطر شيئ في أمة أن يضعف إنتماؤها وتخبو جذوته وتقل قوته ، وحينئذ يحدث تشرذم في المجتمع ، بل صراع وتفكك إجتماعي . فضعف الإنتماء وتشتت الولاءات نذير تخلف للمجتمعات" . "9"
والواقع الذي لابد أن نواجهه ونتعامل معه ، هو أن ( عصر العولمة ) قد بدأ ، بعيدآ عن توصيفه كظاهرة إيجابية ، أو كظاهرة سلبية ، أو كظاهرة توليفية عقلانية ، ولكل توصيف أنصاره ومؤيديه .
ولمواجهة هذا العصر – العولمة – والتعامل معه ، فإننا يجب أن ندرك ونعي أن جميع الآراء تصب في منحى واحد يتعلق بطبيعة كل دولة ستتعامل معه . فالدول القوية هي التي تقدر على التعامل مع إستحقاقات العولمة ، ومع إسقاطاتها . وهي المؤهلة للإندفاع نحو التأثير والمشاركة ، وهي المأمول منها المعالجة الصحيحة : [ لثقافة التسلط الكونية ] "10" . بما فيها من تعسف وتشوهات . ومن المؤكد والواضح ، أن مسار الدول هو التعامل الإيجابي مع العولمة وليس التصادم معها ، إذ لايمكن وقف تقدمها ، أو وضع كوابح لها .
غير أن من الواضح أيضآ أن التوجه الإيجابي وخاصة داخل الدول النامية ، هو " العمل الجماعي " ضمن أطر مجموعات أو تجمعات إقليمية أو دولية من اجل تحسين شروط الإمتثال لمطالب ومتطلبات العولمة .
وإنطلاقآ من المختصرات السابقة لواقع العولمة ومتطلباته ، أين ستكون الدولة الخليجية – وهنا الإمارات العربية المتحدة – من هذه المستحقات ؟
ان الواقع التاريخي والحالي يقول أن دولة الإمارات العربية المتحدة ، ظلت محصنة من إنتشار
( ايديولوجية الإختناق ) "11" . وهي تملك لياقة سياسية تؤهلها للتناغم مع المتطلبات الإنسانية / السياسية والإجتماعية للعولمة ، بما هي عليه من ترابط تراثي ومعنوي تاريخي . وإن كان الحديث هنا متعلقآ بدولة الإمارات ، فإن هذه " الهوية الوطنية " لمجتمعه ودولته ، يمكن أن يكون عامآ بنسبيات مختلفة في مواجهة أي هوية وطنية .. لمشروع العولمة . في مواجهة بنائية حضارية مطورة واقعها ونموها ، ومحافظة ومدافعة عن خصوصيتها الثقافية ، وهويتها الوطنية الجامعة .
وأكثر ما تتجلى لنا تلك الهوية في مضامينها ألإستيعابية البنائية ، في التجربة ألإنسانية بالإمارات العربية المتحدة ، بتفاعل خلاق وبناء بين هويات مركبة : الهوية الوطنية ، الهوية القومية ، الهوية الإسلامية ، في نسيج متناغم مركب بدون تصنع أو تصادم ، مع العولمة ..
حيث إستطاعت هذه الهوية الإنسجامية المركبة : وطنية عربية إسلامية ، التعامل مع العولمة : ثقافيآ وإقتصاديآ وتكنولوجيآ ، وتجيير نتائج هذا التعامل لمصلحة التطوير والبناء والتقدم ، مع كل مؤثراته الإيجابية والسلبية ضمن حدود السلامة والأمان وعدم التفريط ولا الإنغلاق .
ان المجتمع الإماراتي وهو يتعامل مع مراحل العولمة التي لايمكن منع رياحها من الهبوب على المنطقة ، قد إستطاع تطويع هذه الرياح العولمية إلى درجة لابأس بها بفضل التوجه الإنفتاحي المحمي برواسخ هويته الوطنية والقومية الإسلامية . فكانت له هوية بنائية لاهوية قاتلة كما يمكن أن يحدث في غيره من المجتمعات التي نشهد تحولات متأثرة بالعولمة ، تعيدها صراعآ إلى مراحل ماقبل الوطنية ، تفككآ وتشرذمآ وضياعآ وإنفلاشآ . وإن كان المتوجب أكثر ، الإنتباه والعمل على عدم ترك تراكمات السلبيات التي لابد ناتجة عن عصر العولمة ، خاصة مع مجتمع وليد التطور ، وضمن تركيبته السكانية التي تفرض أمران متناقضان يتلخصان في :
1- الكم العددي البشري القليل لمواطني هذا المجتمع .
2-الحاجة إلى كم عددي بشري كبير يرد مع رياح العولمة ، كضرورة لابد منها لسد النقص البشري الذي تحتاجه عملية التوسع والتطوير الإقتصادي والعمراني للمشاريع ومراكز الإقتصاد والإعلام والإنتاج وخدمة متطلبات ذلك التوسع والإنفتاح .
هذان العاملان المتناقضان والخطران ، لايمكن تحقيق التوازن بينهما ، ولا إختيار سياسة دعم أمر منهما على حساب الآخر ، إلا بتلك السياسة الرشيدة والمتدرجة ، بدعم وتنمية ( التوطين ) بإستغلال وحث لأن تأخذ أكبر نسبة عددية من مواطني دولة الإمارات العربية دورها وممارستها ومساهمتها في كافة مسارات العمل والتوسع والتطوير ، ولا بد من رفدها بسياسة ( تعريب ) بتقوية تواجد وإستقرار العنصر العربي الذي هو أساسآ الجزء الأوسع في تركيبة الهوية الوطنية وتوجهاتها وأسباب قوتها .
كما أن ( تأصيل الهوية ) " بالثقافة والتربية " ، وإنفتاحها " بالوعي والمعرفة والعلوم " هو الذي يمكن من مواجهة عدد من التحديات الداخلية والتي ترتبط بعلاقة جدلية مع متغيرات وتطورات البيئة المحيطة : إقليمية ودولية .
وتعتبر ( العملية التربوية ) أساس الإنطلاق نحو مفاهيم ومضامين صحيحة لكل من : الثقافة ، المعرفة ، العلوم ، الإقتصاد ، الإجتماع ، السياسة ، بما يوفر طريقآ صحيحآ وصالحآ ومأمونآ في مواجهة " التعصب " من جهة ، و " الإنفلاش العولمي " من جهة أخرى .
( إن العملية التربوية شأن إجتماعي شامل . ومن هذا المنطلق يجب تحقيق مشاركة إجتماعية واسعة لقطاعات الحياة الإجتماعية والسياسية والإقتصادية . لما تأكد من علاقة قوية بين التربية والتعليم ، وبين التنمية البشرية والإقتصادية من علاقة وثيقة وشاملة ) . "12" .
والعملية التربوية كشأن إجتماعي عام ، ليس محصورآ في مؤسسات المجتمع والدولة الفوقية فقط على أهميتها ، لكنها – العملية التربوية – هي ناتج تراكم ( زمني ومجتمعي ) يبدأ من الأسرة التي تعتبر نواة التنظيم الإجتماعي ، بإعتبار أن المجتمع يتكون من مجموعة من الأسر ، لامن مجموعة من الأفراد اللامنتمين . وتصاعدآ نحو المؤسسات الفوقية وفي علاقة عطاء جدلية بينهما : من اسفل لأعلى ، ومن اعلى لأسفل . وهذه الأسرة لايمكن أيضآ عزلها عن التغيرات بالشكل والحجم والمضمون والوظائف التي دخلت كعوامل على المجتمع ، كما لايمكن عزلها عن المتغيرات الآتية والمؤثرة على منظومة ومستوى القيم الإجتماعية والثقافية والإقتصادية .
ويمكن القول : أن التغيير الحاصل إنما يعد إنعكاسآ لمجموعة من العوامل والمتغيرات مثل :
1- التعليم وتغير أوضاع الشباب .
2- التحديث والتحضر والتطور الصناعي والتقني والتكنولوجي .
3- تطور وسائل الإتصال والإعلام بتقنياتها وتأثيراتها .
مع ضرورة أخذ عامل ( القوة العاملة الوافدة ) الضريبة المباشرة لعملية التنمية والنمو والتحديث ، بما لها من آثار : لغوية ، وثقافية ، ومجتمعية ، تحمل " هجينآ وتنوعآ " كبيرين يصبان في النهاية كعوامل مؤثرة في هذا المجتمع النامي .
من مجمل ذلك .. فلا بد من تحقيق مزيد من الدراسات و " البحوث السيسيولوجية " المتخصصة لمواجهة تلك العوامل ، نحو إستيعابها ومواجهتها بخطط " واقعية متوازنة " ، إذ أن الإلغاء ليس متوافرآ وغير ممكن .
وأخيرآ .. يمكن القول : في المواجهة بين الهوية الوطنية ، والعولمة : "13"
1- أن تصور إنهيار النظم الإجتماعية التقليدية بما فيها نظام الأسرة بكل ما تتضمنه من قيم وعادات وتقاليد وعناصر ومكونات ، في ظل هذه التحديات الخارجية ، مسألة تحتاج إلى مراجعة، وذلك لأن الواقع الفعلي يثبت أنه رغم حدوث بعض التغيرات في بنية الأسرة ووظائفها وأدوارها الأساسية ، فإن هذه التغيرات لم تكن جذرية .
2- إذا كان دور وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية ذا تأثير واضح في بنية المجتمع الثقافي والقيمي ، فلا شك في أن الأمر يتطلب دعمآ لدور الأسرة بحيث يمكنها من القيام بوظائفها التقليدية وبخاصة في مجال التنشئة الإجتماعية وإعداد أجيال مؤهلة فكريآ وثقافيآ ونفسيآ وإجتماعيآ ، لمواجهة تلك التحديات المستقبلية .
3- أن مواجهة تلك التحديات الإقتصادية والثقافية والتقنية للعولمة ، تتطلب التنسيق بين المؤسسات المختلفة ، والتي تشترك مع الأسرة في عملية التنشئة الإجتماعية ، من اجل خلق جيل واع ثقافيآ وفكريآ وإجتماعيآ ، يستطيع أن يتعايش مع تلك التطورات القادمة ، مع الإحتفاظ بهويته وبخصوصيته الثقافية التي كانت وما تزال ذات تأثير واضح في تشكيل وعيه وكيانه الإجتماعي .
4- لابد من مراجعة شاملة لمفهوم الأسرة والإتجاهات النظرية المختلفة التي تتناسب وفهم طبيعة الأسرة الإماراتية ، في ظل الظروف والمتغيرات الجديدة التي يمر بها العالم بصفة عامة ومجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة بصفة خاصة .
5- ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل لابد من مراجعة للقيم والعادات والتقاليد وكيفية المحافظة عليها في ظل نظام أسري يتسم بالترابط والتماسك ، وتدعيم جوانب التفاعل في ظل المتغيرات الحديثة التي أصبحت تضرب بجذورها في دول العالم النامي من نظم وأشكال أسرية جديدة – المعاشرة من دون زواج ، الأساليب الحديثة في إنجاب الأطفال – وغيرها من متغيرات عالمية جديدة ، اخذت تهدد القيم الأسرية في الدول النامية .
6- ولا بد من اخذ التغيرات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية التي تعكسها العولمة في الوقت الراهن ، من وضعها في الإعتبار عند صياغة إستراتيجية تنموية يكون هدفها الأساسي ، المحافظة على النظام الأسري بما يتفق والقيم الدينية من جانب ، والخصوصية المجتمعية من جانب آخر ، وذلك من أجل المحافظة على المجتمع والوقوف ضد الإنعكاسات السلبية للعولمة .
يجب علينا جميعآ وعلى كل منّا ، تشجيع الإضطلاع بتنوعه الخاص وإدراك هويته بوصفها : [ حصيلة إنتماءاته المختلفة ] – أمين معلوف – بدلآ من إختزالها إلى إنتماء واحد ُينَصَب عُلويآ وأداة إستعباد وأداة حرب أحيانآ . ويجب على كل الذين لاتلتقي ثقافتهم الأصلية بثقافة المجتمع الذي يعيشون فيه ، أن يتمكنوا من الإضطلاع بإنتمائهم المزدوج دون الكثير من التمزقات ، والحفاظ على إنتمائهم إلى ثقافتهم الأصلية ، وألا يشعروا أنهم مُجبَرون على إخفائها كمرض مخجل ، والإنفتاح بالتوازي على ثقافة البلد المضيف .
==============
مراجع :
1- الثقافة القومية في عصر العولمة - تركي الحمد .
2- هذا التعريف هو حصيلة آراء وتعاريف متقاربة المضمون لدى :
تايلور – فرانز بواز – تعريف اليونيسكو 1982 – مالك بن نبي – الجابري ..
3- تجديد الفكر العربي - زكي نجيب محمود .
4- في الهوية الوطنية - إفتتاحية صحيفة الخليج الإماراتية : 7/1/2008 .
5- عماد فوزي الشعيبي - صحيفة الحياة : 5/11/1992 .
قراءة في الإنتماء والعولمة..
فائز البرازي ـ عندما كتب / أمين معلوف / مخطوطته ( الهويات القاتلة ) ، كانت قراءتها ملامسة لحدود الإجتماع السياسي من خلال النزوع الإنساني إلى " إنتماء " من جهة ، وكشهادة منه تعبر عن طموح مشروع نحو الأخوة الإنسانية. وكلا الأمرين يجتمعان ويفترقان. فالهوية للفرد الإنسان وتالياً للجماعة، إما أن تعيش التعصب والإنغلاق والأفق الضيق، أو تعيش إنفتاحها بما هي عليه توجهآ نحو تكاملها مع " الآخر " في الإنتماء الإنساني العام .
هذه المخطوطة / الرأي ، وجدت طريقها كأوضح ماتكون عليه ، من الواقع الذي تعانيه المنطقة. فتحولت – بالنسبة لي على الأقل – من نظرة فلسفية ، وملامسة لحدود العلوم الإجتماعية ، إلى صورة حية نعيشها هنا في شرق وجنوب المتوسط .
الهوية / الإنتماء .. وتفاعلها مع العولمة / الإنفلاش .. يشكلان نقيضين كان يجب أن لا يكون .
فالهوية / الإنتماء – وليس البطاقة الشخصية – هي مجمل متفاعل لهويات جزئية متعددة تعيش في جدلياتها لتفرز هوية / إنتماء أكثر رحابة وشمولية وعمق ، من جزئيات متنافرة لما قبل تكون المجتمعات .
هويتنا .. هوية مركبة ولابد أن تكون كذلك في تعبيرها عن الإنتماءات الجزئية المُرَكِبة للهوية العامة . الإنتماء إلى : الأسرة ، العائلة ، الدين ، الطائفة ، الشريحة الإجتماعية ، الأحزاب ، الدولة ، العروبة ، العالم . عدد من الإنتماءات يمكن أن يتوسع أكثر أو يتقلص . لكن أسوأ مافيه أن تتحول الهوية / الإنتماء إلى صورة تعصبية لجزء من الهوية الأشمل ، حيث تُزال وتُغيّب كل الإنتماءات الأوسع المؤدية إلى التعايش والترابط ووحدة النسيج ، فتتقوقع وتنعزل تلك الإنتماءات الإحتكارية وتصبح حتمآ في مواجهة كل الآخر .. رفضآ وصراعآ وتصادمآ .
والمهم في الإنتماء هو الصعود الفعال وعلاقته الجدلية البناءة وإنفتاحه على الآخر ، ليتواجد ضمن حلقات أساسية في الفعل والتعاون والعطاء الإجتماعي والسياسي والإقتصادي ، وضمن " حس التوافق الإجتماعي " الذي سيفرز بعموميته إنتمائه للجماعة ، مواقف ورؤى هذه الجماعة في بيئتها الإجتماعية ، دون توقف كبير للتفكير في تلك المواقف والرؤى بحد ذاتها .
وحتى اليوم وضمن فكرة الوحدة والتوحد ، يسود العالم والشعوب توجهين أساسيين :
1- البحث عن وسيلة لتثبيت الهوية الوطنية والقومية الخاصة : تقوية وتعزيز وتنمية .
2- النزوع إلى تخطي عصر الوطنيات والقوميات ، وصولآ إلى عصر العولمة .
وفي كلا التوجهين هناك نزوع إلى الإرتقاء المجتمعي الإنساني نحو التكامل والكمال . بينما نتابع ونشاهد على الأرض إنسحابآ ونزوعآ نحو التفتيت والتشرذم والتعصب والصدام بما يعيد المجتمعات إلى ماقبل الدولة وما قبل القبيلة . إنغلاقآ وصدامآ : إثنيآ وطائفيآ وعشائريآ .
فكيف حدث هذا التراجع ، وأين هي المشكلة ؟.
أكاد أعتقد بأن سبب هذا التراجع / المشكلة ، يعود أساسآ إلى دخول عصر جديد بمتغيراته : الثقافية والإجتماعية والإقتصادية والعلمية والعسكرية ، قبل أن " تستنفذ " قوى العصر السائد وظائفها وأدواتها ومعطياتها . وبالتالي يمكن النظر إلى المشكلة إنطلاقآ من :
1- نمو وتزايد وتأثير العوامل العلمية والتكنولوجية والإقتصادية ، في تحديد مكانة الدول بالعالم في حقل الصراعات والعلاقات الدولية ، مقابل : قصور وتضاؤل عناصر القوة التقليدية للدولة .
2- تآكل مجال السيادة الوطنية نتيجة إختراقات لصالح الدول الكبرى المهيمنة على وسائل وأدوات العولمة ومساراتها .
فدخول عصر جديد بمتغيراته .. ( عصر العولمة ) الذي شكل " الثورة الثالثة " التي دخلتها المجتمعات البشرية بعد الثورة الزراعية ، والثورة الصناعية . هذه ( الثورة الكونية الثالثة ) كما يشير إليها أنصار الحداثة ، كان لها بداياتها العميقة التأثير في الواقع الثقافي أولآ . والذي يشتمل بأساسياته ثورة في مفاهيم " معنى الوقت " ، و " معنى المكان " حيث تعيش فيهما المجتمعات البشرية منذ وجودها ، ويشكلان أساسآ لها في تعاطيها مع كل المحيط الخارجي ، والمحيط الداخلي / النفس البشرية .
فعندما تتغير ( مفاهيم أساسية وهامة ) مثل مفهوم الزمن ومفهوم المكان ، فإن هذا التغيير المطروح لابد من أن يكون له أثرآ يستحق التوقف عنده وإجراء مراجعة فيه .
وأكاد أرى أن أهمية التوقف والتساؤل في ذلك ، ينبع من إنعكاس المفعول الواقعي على الأرض والحاصل أمامنا . فالسرعة الحاصلة في التغيير ، تجعل الإنسان لايستطيع تمثل هذا " النمط الجديد " ولايستطيع بسهولة إستيعابه ، وبالتالي يصعب عليه أن ينافسه بما هو عليه من " أنماط قديمة " . وهذه الصعوبة في الحركة ضمن الموازين البشرية لم تحدث فقط بين الدول ، بل حدثت – وهذا أهم – داخل مجتمعات الدول .
فالعنصر البشري هو دائمآ ( العنصر الفاعل ) من ناحية ، وهو أيضآ ( العنصر المتلقي ) من ناحية أخرى ، في جدلية قائمة محققة . فهو – العنصر البشري – فاعل ومفعول به في ذات الوقت . والعنصر البشري بما نحن عليه هنا ، إنبهر بإنجازات التكنولوجيا وتطوراتها ، وإزدادت قوى دفعها دون قواعد ودون كوابح إنسانية ، وصولآ إلى اللعب على أوتار " غرائز الإنسان" ، ومن أبسطها : الإستسهال والإستعجال ، إلى أقواها : المال والتملك والسيطرة والجنس .
فتوسعت دوائرها وأضيفت لها قوى دفع أكبر وأكبر .
وتراكميآ .. تضاعفت جاذبية كل هذه المجالات ، ودفعت " الجميع العولمي " إلى تطوير المنتج وإغراء المستهلك ، فكانت النتيجة السيئة والخاطئة ، أن إمتزج التفكير والواقع ، بالخيال والأحلام ، وتداخلت مفاهيم الخير مع مفاهيم الشر ، وذابت الأخلاقيات وتعالت " حدة الذاتية " لدى البشر ، فتسطحت الإنسانية ، وتخدرت الضمائر ، وتحجرت المشاعر ، مع حدوث " تغيير نوعي " في حياة الناس وأسلوبها ، شاملآ الفكر والمشاعر والإنتماءات .
وقد كانت مظلة كل هذا .. الهيمنة العالمية العولمية في كل نواحيها : العسكرية ، والتكنولوجية ، والعلمية ، مقابل قصور فاضح وضعف لعناصر الدولة الوطنية ومجتمعها .
في الهوية الوطنية :
-------------------
بداية لابد من التوضيح والتقرير بناءآ على معطيات الواقع ونتائج الوعي والبحث ، أن هناك (تشابكآ وتكاملآ ) بين هويات أساسية المرتكزات بما تشكله من هوية متناغمة ومنسجمة إجتماعيآ وثقافيآ وإقتصاديآ وتاريخيآ وجغرافيآ ، هي : ( الهوية الوطنية القومية الإسلامية ) ، بثباتها وجوهرها .
فالهوية الوطنية لاتصطدم مع الإنتماء القومي والعقيدة الإسلامية الحضارية . بل هي أساس واقع يبنى عليه وصولآ للمجال الأرحب القومي والإسلامي .
والهوية القومية ماهي إلا الجسد الأكبر الذي يضم ضمنآ الهويات الوطنية الأعضاء ، فلا يستقيم وجود إحداها بدون الأخرى .
والهوية الإسلامية كعقيدة وحضارة ، هي روح ذاك الجسد ، تعطيه المرجعية الروحية والمادية ، وتكون جامعة منسقة في تعامله مع الآخر القومي والإنساني .
والأمر هنا يقتضي منّا الوقوف عند " مفاهيم ومضامين الهوية الوطنية " .
ان مفهوم الهوية الوطنية بركيزته الأساسية التي تبنى عليها الهوية هي : ( الثقافة ) . على أن هذا المفهوم لايبقى محصورآ ومقيدآ بذلك الأساس ، إنما ينطلق منه إلى مفهوم أرحب يرتبط بالجوانب : الفلسفية ، وعلوم الإجتماع ، والموقف من الآخر الذي لولاه لما كان هناك " هوية خاصة" .
والهوية بكونها : [ مفهوم ذهني ] أولآ ، و [ وجودآ محسوسآ ] ثانيآ "1" ، يتزايد الهاجس بها أكثر ويتعمم في أبعاده ، في أوقات الأزمات التي تمر بجماعة ما ، وأحيانآ في أوقات التفوق الكاسح الذي تعيشه جماعة ما . بحيث يكون لهذا الإنتماء / الهوية أساسآ قويآ متمايزآ في ثقافته عن الآخر .
والثقافة عمومآ : ماهي إلا فلسفة جماعة ما ، ونظرتها إلى الوجود من حولها ، لتكوّن مجمل العقائد والقناعات من : دين ولغة وفن وعادات وسلوك ومعرفة . والثقافة عبارة عن :
[ تلك المعايير المشكلة لنظام العقل والسلوك في مجتمع ما ، أو لدى جماعة ما ، والتي تحدد نظرة الفرد والجماعة لنفسها وللآخرين . إنها ذلك الكل المركب الذي يتضمن : المعرفة ، الإيمان ، الفن ، الأخلاق ، القانون ، الأعراف ، وأية قدرات وعادات يكتسبها الإنسان بصفته عضوآ في جماعة ] " 2" .
بحيث تمنح في مجموعها ( المعنى ) لتلك الهوية ، وتكون إنعكاسآ لتلك الفلسفة المعاشة لهذه الجماعة أو تلك . فهي " وعي بالذات " ، ومعيار تعامل مع " الآخر " ، وبكل مايدفع هذا الوعي بالذات من خلال تفاعلاته الذاتية أو تفاعلاته مع الآخر ، أو تفاعلاته مع الزمان والمكان ، نحو مايمكن تسميته " بالمتغير التاريخي والمجتمعي " ، تطورآ إلى الأمام ، أو إنكماشآ وتقوقعآ وردة نحو الوراء .
وفي مايقارب هذا ، يقول / زكي نجيب محمود / عن الهوية والثقافة :
[ حين تكون الثقافة المعينة منسابة في عروق الناس ودمائهم ، فحياتهم هي ثقافتهم ، وثقافتهم هي حياتهم . لاحين تنسلخ عن الحياة ليضطلع بها محترفون يطلقون على أنفسهم إسم المثقفين ، ولا يحدث إنسلاخ كهذا – فيما أظن – إلا حين تكون الثقافة وافدة إلى الناس من الخارج ، لامنبثقة من نفوسهم . ] " 3"
بين الوطني و القومي :
----------------------
يطرح عادة تساؤل محق ومشروع : ماعلاقة الهوية الوطنية ، بهوية الأمة ؟
وهل يمكن للهوية الوطنية أن تبقى محافظة على ذاتها ومقوماتها الأساسية دون سند من مرجعيات الأمة اللغوية والعقيدية والتراكم التاريخي والحضاري ؟ "4" .
أكاد أعتقد بضرورة تجاوز الخلل الإشكالي القائم بين : البعد الوطني ، والبعد القومي . فهو إشكال " مصطنع " – كما أدّعي – ليس له مستندآ ذهنيآ أو حسيآ . بل أن الحالة الذهنية ، والحالة الحسية المصلحية ، تنفي أن يكون هناك خلل موضوعي بين الهوية الوطنية والهوية القومية . وهذه الإشكالية " المصطنعة " كان سببها : الرومانسية القومية من جهة ، والذاتية القطرية المنغلقة من جهة أخرى .
" فالرومانسية القومية إنطلقت من رفض كل دولة وطنية ، وأذابت الوطني في مفهوم العروبة التراثي والوجداني ، ونسيت أن تلتفت إلى أن الوطني في " غياب " القومي ، ضرورة ملحة . وأنه من الغباء إنتظار ماهو قومي ، حتى نبني أوطاننا بشكل قومي وجمعي " "5" .
وبالتالي فإن تحديث التوجه والفكر الآن ، لابد أن يستوعب أن التعدديات الوطنية في التكوين الجغرافي والمجتمعي والسياسي ، لها جذورها وبناها التقليدية والمعاصرة . وإنه لأكثر نجاعة عند التوجه القومي العربي الوحدوي ، أن تقارب هذه التعدديات الوطنية : معرفيآ وموضوعيآ ، من أجل تشخيصها ومعالجتها وتحديد السبل الفعالة لتطويرها إيجابيآ والتقريب فيما بينها قوميآ. وعندما نحتكم إلى الجغرافيا والتاريخ ، نجد :
(ان التجزئة السياسية كانت تعبيرآ عن تعددية البنى المجتمعية الداخلة في النسيج الإجتماعي البشري الإقتصادي العام للمنطقة العربية ، والذي كون بطبيعته نسيجآ مركبآ وتراكميآ على مدى عصور طويلة ، وكان عرضة مستمرة للغزوات الرعوية من داخلية عربية ، وخارجية أعجمية . الأمر الذي لم يتح " للجسم العربي الواحد " ، وللنسيج العربي الواحد ، تلك العزلة السعيدة لفترة من التاريخ ، لينصهر في بوتقة عضوية واحدة ، ويُذَوّب بناه المتعددة بصيغة مستقرة في بنيته الموحدة الشاملة . ) "6" .
وفي المقابل .. إعتقد بعض العرب وخاصة من هم في مراكز القرار ، أن العمل على إضعاف الهوية العربية ومحاولتهم التهرب من الإنتماء للعروبة ، سيعمل على دعم وتقوية الهوية الوطنية / الإنتماء .
وهنا يجب أن نعي خطورة هذا الطرح ، خاصة وأرضنا وشعبنا العربي يرزح تحت الإحتلالات والتدمير ، ويعايش أخطر التحديات الوجودية التي تمس وحدة نسيج المجتمعات العربية ، وسرقة ثرواتها ، دون أي درع قومي محسوس على جميع صعد ( الأمن القومي العربي ) : فكريآ وثقافيآ وسياسيآ وتنمويآ وإقتصاديآ وعسكريآ ، يحمي ويحصن ويدفع الواقع المزري إلى مستقبل أفضل . إن ضرورة إستمرار البحث والتحليل ، سيوضح لنا دائرة التخلف والضعف هذه ، الناجمة عن بعض الرؤى والمحاور :
المحور الأول : - فشل الدولة القطرية مهما بلغت ثروتها الوطنية ، وأيآ كان مذهبها الإقتصادي ، ومهما كانت تجاربها التنموية ، وإختياراتها لإستراتيجيات تخطيط أو تصنيع أو تنمية ، قد فشلت ليس في تجاوز تخلفها القطري وتحقيق إنطلاق قوي بإتجاه التقدم فحسب ، بل فشل هذا النموذج القطري حتى في إحداث إصلاح إقتصادي يصحح الهياكل الإنتاجية ، ويقلل درجة الإعتماد على الخارج . ومن ثم يحقق التوازن في المعادلة الصعبة الشهيرة : كيفية تحقيق الزيادة في الإنتاج ، وفي الإستهلاك ، وفي الإدخار ، في آن معآ ؟
المحور الثاني : - أثبتت التجربة وخاصة خلال العقود الثلاثة الماضية ، أن إغفال الخيارات القومية ، وتراجع وإرتباك النظرة إلى مفهوم ( الأمن القومي العربي ) بأبعاده الشاملة ، تحت وطأة سيادة مفهوم ( الأمن القطري ) ، والتفريط في هدف التنمية الشاملة والمستقلة ، كل ذلك أدى إلى تهميش دور الإقتصاديات العربية من جهة ، ثم إندماجها في السوق الرأسمالي العالمي من مواقع التبعية ، وليس من مواقع الإستقلال والإبداع والإضافة ، من جهة ثانية . فإنحصر دور الإقتصاديات العربية ، وإنحصر دور الدولة القطرية ، في إنتاج المواد الخام ، وتوفير العمالة الرخيصة ، ثم التحول إلى مستهلك نشط لإنتاج النظام الرأسمالي العالمي .
المحور الثالث : - وقوع أغلب الدول العربية بما فيها الدول المنتجة للبترول ، في مصيدة الديون للخارج . والتي مالبثت تلتهم أية فوائض أو زيادات في معدلات الناتج المحلي لتلك الدول . وأصبحت تلك الديون تمثل أكبر عائق في طريق تحقيق التنمية المستقلة أو الإستقلال التنموي ، فضلآ عما تفرضه من قيود على الإرادة السياسية في صنع القرار الوطني للدول المدينة .
المحور الرابع : - إضافة إلى ماتقدم ، نجد مفارقة كبيرة .. ففي الوقت الذي تسعى فيه أوروبا لخلق منظومة إقتصادية أوروبية واحدة وصولآ إلى منظومة سياسية واحدة ، فإن ذلك يقابله على الصعيد العربي فرقة وتمزقآ وصل حد الإنهيار .
الوطني والقومي ، والدين :
---------------------------
أكاد اجزم أن هذه الهوية المتساوقة والمدمجة بتركيبتها الثلاثية : الوطنية ، القومية ، الإسلام ، هي من الهويات البنائية ذات نسيج مجتمعي متناغم التركيب في الأخذ والعطاء .
وأدّعي أن هذه الصورة الذهنية والحياتية المعاشة ، هي التي دفعت إلى إفراز فكر ووعي منذ قرن من الزمان ، ساد وإنتشر مواجهآ لواقع سياسي وإجتماعي وثقافي ، فرضته إصطناعآ وقسرآ قوى الإستعمار والتقسيم والتغريب الثقافي .
هذا الإفراز الفكري والوعيي داخل المجتمع ، شكل هويته الجامعة ولكل فئاته ومكوناته بحيث أضحت هذه الثلاثية : الوطنية ، القومية ، الإسلامية ، مستقرة إلى حد كبير على أسس حديثة تتجاوز واقع سبق فرضه بكون :
* الوطنية : هي المرتكز في إعادة بناء القوة البنائية والدفاعية في المجتمع والدولة ، وهي الدافع الذي يؤدي إلى تماسك الأفراد وتوحدهم ، وإلى ولائهم للوطن وتقاليده والدفاع عنه ، وهي التي ستؤدي إلى تماسك الدولة الوطنية وخلق قوتها .
* القومية : وهي السياج والدرع الشامل الحامي للوطنيات في مسارها نحو تحقيق إندماجها : المجتمعي والإقتصادي والسياسي والعسكري . وهي العاكسة لأفكار وتصورات تجعل من الوطن الكبير بشعبه ( قيمة إجتماعية ) أساسية ، تعمل على زيادة ولاء الفرد لهذا الوطن ، الولاء المستند على الشعور بالمصير والأهداف والمسؤوليات المشتركة والمصالح الجمعية لجميع مواطني هذا الوطن الكبير .
* الإسلام : هو روح هذه الأمة والمشكل الحضاري لجميع فئاتها ومكوناتها وأفرادها .
ان هذه الأسس التي تجسد هوية أمة معروفة بتدينها الفطري ، تطرح حركة تغيير شامل في المجتمعات العربية ، بعيدآ عن الجهل والخرافة والتحريف . ولتقود هذه الحركة ذات الهويات البنائية ، الأمة في معارك توحيد أشلاء الأمة ، وفي بناء المجتمع الذي تسوده قيم الحرية والعدالة والحداثة . وترى في الدين الإسلامي ( إرث حضاري وثقافي ) وعنصر تكوين أساسي في هويتها ، وهو ملك لكل أفرادها وقواها المسلمة والغير مسلمة ، ولا يحق لأية فئة أن تدّعي إمتلاكه أو إستخدامه ستارآ لتحقيق أيآ من أهدافها الخاصة .
إن الهوية التي تستبعد الدين من المجتمع ، أو تغيّب الفهم الصحيح للدين والفقه المذهبي وللعلاقة مع الآخر أيآ كان ، تتحول – تلك الهوية – إلى هوية قاتلة ، في خلقها المناخ المناسب لأي صراع طائفي أو مذهبي ، يُحَول ماهو إيجابي قائم على الإختلاف والتعدد ، إلى عنف دموي يناقض جوهر الرسالات السماوية .
إن علينا جميعآ مسؤولية إعادة مراجعات كثيرة أصبحت مطلوبآ عربيآ في هذا الوقت بالذات ، والأمة تتعرض لمحن كثيرة تمس وجودها وحريتها وأمنها وثرواتها ومستقبلها . وان أهم هذه المراجعات وما إرتبط منها في طرحنا هنا ، هو إعادة الوعي لما تشكله هويتنا الوطنية الجامعة من أهمية حياتية ..
إن ضبابية الهوية الوطنية أو ضعفها ، سيشكل مخاطر متزايدة تمس مجتمعاتنا . منها : "7"
1- فتح الأبواب لصالح هيمنة إنتماءات ضيقة منغلقة تخترق النسيج الإجتماعي الواحد ، وتؤدي إلى ضعف البناء السياسي والدستوري الداخلي ، فيصبح " الوطن " ساحة صراع على مغانم ومكاسب سياسية أو شخصية ، بعيدآ عن مصلحة الإنتماء الوطني الواحد .
2- ان ضعف الهوية الوطنية يشكل تعبيرآ عن الفهم الخاطئ للإنتماءات الأخرى التي تتراوح في إنتماءات ماقبل الدولة ، من إنتماءات : دينية مختلفة ، أو إثنية ، أو قبلية . فتتحول إلى خلافات عنيفة وصراعات دموية تتناقض تمامآ مع " حكمة الإختلاف والتعدد " .
3- كما أن ضعف الهوية الوطنية الجامعة ، قد يكون مدخلآ للتدخل الخارجي ، بل وللإحتلال الإستعماري . حيث تنساق كل طائفة أو مذهبية أو فئوية على ضعفها ، للإستقواء والتعامل مع أي قوة أو جهة خارجية من أجل مواجهة الإنتماءات الأخرى في الوطن الواحد . "
من تلك المخاطر المحيقة بالمجتمع والوطن ، يصبح ( تعزيز الهوية الوطنية الجامعة )ضرورة أصيلة وهامة ، بما يجب ان يرافقها من إعادة الإعتبار وتقوية ودعم " مفهوم العروبة " على المستوى العربي الشامل ، لتصبح ( العروبة الثقافية ) الجامعة لكل العرب هي حجر الزاوية المنشود لمستقبل أفضل ، داخل البلدان العربية ، وبين بعضها البعض . فالعودة إلى العروبة الآن ، هي حاجة قصوى لحماية المجتمعات من الداخل ، وتحصينها من هيمنة الخارج ، ولمواجهة ندية مع " مشروع العولمة ط ، ولبناء أسس سليمة لتعاون عربي مشترك وفعال .
إنها دعوة للعودة إلى أصالة هذه الأمة ودورها الحضاري والثقافي الرافض للتعصب وللعنصرية.
الهوية الوطنية ، والعولمة :
الإمارات العربية المتحدة / نموذجآ
---------------------------------
عندما تترسخ الهوية الوطنية ، وتستكمل بناءها وتستقر على أساس المواطنة الكاملة ، فإنها بالطبيعة المجتمعية والإنسانية تنزع إلى تكامل أكبر يحقق لها مزيد من وحدة النسيج الإنساني ، ويحقق أكثر متطلبات التقدم والإزدهار .
لكنه وفي واقع الحال الكوني اليوم ، نجد أن " طارئآ ومسارآ إنسانيآ " في ذات الوقت قد طرح نفسه في العالم . فالتطورات التي مازالت تتلاحق بوتيرة عالية في جميع المجالات العلمية وخاصة في تقنية المعلومات والإتصالات وما تؤدي إليه من قفزات هائلة في كل مناحي الحياة ، خلقت واقعآ عالميآ جديدآ تمثل بما سمي ( عصر العولمة ) . ونقصد هنا العولمة في أبعادها الثقافية والإقتصادية والإجتماعية اساسآ ، مع مايلحقها من بعد " سياسي ايديولوجي " .
وبعيدآ عن التعاريف والمصطلحات ( لظاهرة العولمة ) التي أطلق فيها أكثر من رأي : العولمة – الكونية – الكوكبية – القولبة - .. فإن هذه الظاهرة بشكلها العام أصبحت تعني : "8"
[ توحيد العالم وإخضاعه لقوانين مشتركة تضع حدآ فيه لكل أنواع السيادة . وقد بدأت مظاهر هذا الإتجاه منذ ميلاد الشركات المتعددة الجنسيات ، لتصل اليوم إلى نظام التجارة الحرة بعد مفاوضات " الجات " ، ووقع التعبير عنه مؤسسيآ في " منظمة دولية " تحمل الإسم ذاته ، وفي قوانين وتدابير سيلغي مفعولها القوانين المرعية في الدول الوطنية ] .
وتحاول العولمة – كنتيجة – فرض نمط حياة شاملة بما في ذلك الثقافة والعلاقات الإجتماعية وأنماط الإستهلاك والقيم وأسلوب الحياة وأنماط التفكير والتنظيم الإجتماعي والسياسي .
" فأخطر آثار العولمة هو مايتصل بإقتحامها للبنى الثقافية والحضارية لشعوب العالم تحت دعوى التوحد الثقافي . فذلك سيؤدي إلى تصدع الهوية الثقافية في بلدان العالم التي تتأثر بالعولمة . وقد ينتج من هذا مايسمى ( بالصراع القيمي ) بالإضافة إلى إضعاف عاطفة الإنتماء . وأخطر شيئ في أمة أن يضعف إنتماؤها وتخبو جذوته وتقل قوته ، وحينئذ يحدث تشرذم في المجتمع ، بل صراع وتفكك إجتماعي . فضعف الإنتماء وتشتت الولاءات نذير تخلف للمجتمعات" . "9"
والواقع الذي لابد أن نواجهه ونتعامل معه ، هو أن ( عصر العولمة ) قد بدأ ، بعيدآ عن توصيفه كظاهرة إيجابية ، أو كظاهرة سلبية ، أو كظاهرة توليفية عقلانية ، ولكل توصيف أنصاره ومؤيديه .
ولمواجهة هذا العصر – العولمة – والتعامل معه ، فإننا يجب أن ندرك ونعي أن جميع الآراء تصب في منحى واحد يتعلق بطبيعة كل دولة ستتعامل معه . فالدول القوية هي التي تقدر على التعامل مع إستحقاقات العولمة ، ومع إسقاطاتها . وهي المؤهلة للإندفاع نحو التأثير والمشاركة ، وهي المأمول منها المعالجة الصحيحة : [ لثقافة التسلط الكونية ] "10" . بما فيها من تعسف وتشوهات . ومن المؤكد والواضح ، أن مسار الدول هو التعامل الإيجابي مع العولمة وليس التصادم معها ، إذ لايمكن وقف تقدمها ، أو وضع كوابح لها .
غير أن من الواضح أيضآ أن التوجه الإيجابي وخاصة داخل الدول النامية ، هو " العمل الجماعي " ضمن أطر مجموعات أو تجمعات إقليمية أو دولية من اجل تحسين شروط الإمتثال لمطالب ومتطلبات العولمة .
وإنطلاقآ من المختصرات السابقة لواقع العولمة ومتطلباته ، أين ستكون الدولة الخليجية – وهنا الإمارات العربية المتحدة – من هذه المستحقات ؟
ان الواقع التاريخي والحالي يقول أن دولة الإمارات العربية المتحدة ، ظلت محصنة من إنتشار
( ايديولوجية الإختناق ) "11" . وهي تملك لياقة سياسية تؤهلها للتناغم مع المتطلبات الإنسانية / السياسية والإجتماعية للعولمة ، بما هي عليه من ترابط تراثي ومعنوي تاريخي . وإن كان الحديث هنا متعلقآ بدولة الإمارات ، فإن هذه " الهوية الوطنية " لمجتمعه ودولته ، يمكن أن يكون عامآ بنسبيات مختلفة في مواجهة أي هوية وطنية .. لمشروع العولمة . في مواجهة بنائية حضارية مطورة واقعها ونموها ، ومحافظة ومدافعة عن خصوصيتها الثقافية ، وهويتها الوطنية الجامعة .
وأكثر ما تتجلى لنا تلك الهوية في مضامينها ألإستيعابية البنائية ، في التجربة ألإنسانية بالإمارات العربية المتحدة ، بتفاعل خلاق وبناء بين هويات مركبة : الهوية الوطنية ، الهوية القومية ، الهوية الإسلامية ، في نسيج متناغم مركب بدون تصنع أو تصادم ، مع العولمة ..
حيث إستطاعت هذه الهوية الإنسجامية المركبة : وطنية عربية إسلامية ، التعامل مع العولمة : ثقافيآ وإقتصاديآ وتكنولوجيآ ، وتجيير نتائج هذا التعامل لمصلحة التطوير والبناء والتقدم ، مع كل مؤثراته الإيجابية والسلبية ضمن حدود السلامة والأمان وعدم التفريط ولا الإنغلاق .
ان المجتمع الإماراتي وهو يتعامل مع مراحل العولمة التي لايمكن منع رياحها من الهبوب على المنطقة ، قد إستطاع تطويع هذه الرياح العولمية إلى درجة لابأس بها بفضل التوجه الإنفتاحي المحمي برواسخ هويته الوطنية والقومية الإسلامية . فكانت له هوية بنائية لاهوية قاتلة كما يمكن أن يحدث في غيره من المجتمعات التي نشهد تحولات متأثرة بالعولمة ، تعيدها صراعآ إلى مراحل ماقبل الوطنية ، تفككآ وتشرذمآ وضياعآ وإنفلاشآ . وإن كان المتوجب أكثر ، الإنتباه والعمل على عدم ترك تراكمات السلبيات التي لابد ناتجة عن عصر العولمة ، خاصة مع مجتمع وليد التطور ، وضمن تركيبته السكانية التي تفرض أمران متناقضان يتلخصان في :
1- الكم العددي البشري القليل لمواطني هذا المجتمع .
2-الحاجة إلى كم عددي بشري كبير يرد مع رياح العولمة ، كضرورة لابد منها لسد النقص البشري الذي تحتاجه عملية التوسع والتطوير الإقتصادي والعمراني للمشاريع ومراكز الإقتصاد والإعلام والإنتاج وخدمة متطلبات ذلك التوسع والإنفتاح .
هذان العاملان المتناقضان والخطران ، لايمكن تحقيق التوازن بينهما ، ولا إختيار سياسة دعم أمر منهما على حساب الآخر ، إلا بتلك السياسة الرشيدة والمتدرجة ، بدعم وتنمية ( التوطين ) بإستغلال وحث لأن تأخذ أكبر نسبة عددية من مواطني دولة الإمارات العربية دورها وممارستها ومساهمتها في كافة مسارات العمل والتوسع والتطوير ، ولا بد من رفدها بسياسة ( تعريب ) بتقوية تواجد وإستقرار العنصر العربي الذي هو أساسآ الجزء الأوسع في تركيبة الهوية الوطنية وتوجهاتها وأسباب قوتها .
كما أن ( تأصيل الهوية ) " بالثقافة والتربية " ، وإنفتاحها " بالوعي والمعرفة والعلوم " هو الذي يمكن من مواجهة عدد من التحديات الداخلية والتي ترتبط بعلاقة جدلية مع متغيرات وتطورات البيئة المحيطة : إقليمية ودولية .
وتعتبر ( العملية التربوية ) أساس الإنطلاق نحو مفاهيم ومضامين صحيحة لكل من : الثقافة ، المعرفة ، العلوم ، الإقتصاد ، الإجتماع ، السياسة ، بما يوفر طريقآ صحيحآ وصالحآ ومأمونآ في مواجهة " التعصب " من جهة ، و " الإنفلاش العولمي " من جهة أخرى .
( إن العملية التربوية شأن إجتماعي شامل . ومن هذا المنطلق يجب تحقيق مشاركة إجتماعية واسعة لقطاعات الحياة الإجتماعية والسياسية والإقتصادية . لما تأكد من علاقة قوية بين التربية والتعليم ، وبين التنمية البشرية والإقتصادية من علاقة وثيقة وشاملة ) . "12" .
والعملية التربوية كشأن إجتماعي عام ، ليس محصورآ في مؤسسات المجتمع والدولة الفوقية فقط على أهميتها ، لكنها – العملية التربوية – هي ناتج تراكم ( زمني ومجتمعي ) يبدأ من الأسرة التي تعتبر نواة التنظيم الإجتماعي ، بإعتبار أن المجتمع يتكون من مجموعة من الأسر ، لامن مجموعة من الأفراد اللامنتمين . وتصاعدآ نحو المؤسسات الفوقية وفي علاقة عطاء جدلية بينهما : من اسفل لأعلى ، ومن اعلى لأسفل . وهذه الأسرة لايمكن أيضآ عزلها عن التغيرات بالشكل والحجم والمضمون والوظائف التي دخلت كعوامل على المجتمع ، كما لايمكن عزلها عن المتغيرات الآتية والمؤثرة على منظومة ومستوى القيم الإجتماعية والثقافية والإقتصادية .
ويمكن القول : أن التغيير الحاصل إنما يعد إنعكاسآ لمجموعة من العوامل والمتغيرات مثل :
1- التعليم وتغير أوضاع الشباب .
2- التحديث والتحضر والتطور الصناعي والتقني والتكنولوجي .
3- تطور وسائل الإتصال والإعلام بتقنياتها وتأثيراتها .
مع ضرورة أخذ عامل ( القوة العاملة الوافدة ) الضريبة المباشرة لعملية التنمية والنمو والتحديث ، بما لها من آثار : لغوية ، وثقافية ، ومجتمعية ، تحمل " هجينآ وتنوعآ " كبيرين يصبان في النهاية كعوامل مؤثرة في هذا المجتمع النامي .
من مجمل ذلك .. فلا بد من تحقيق مزيد من الدراسات و " البحوث السيسيولوجية " المتخصصة لمواجهة تلك العوامل ، نحو إستيعابها ومواجهتها بخطط " واقعية متوازنة " ، إذ أن الإلغاء ليس متوافرآ وغير ممكن .
وأخيرآ .. يمكن القول : في المواجهة بين الهوية الوطنية ، والعولمة : "13"
1- أن تصور إنهيار النظم الإجتماعية التقليدية بما فيها نظام الأسرة بكل ما تتضمنه من قيم وعادات وتقاليد وعناصر ومكونات ، في ظل هذه التحديات الخارجية ، مسألة تحتاج إلى مراجعة، وذلك لأن الواقع الفعلي يثبت أنه رغم حدوث بعض التغيرات في بنية الأسرة ووظائفها وأدوارها الأساسية ، فإن هذه التغيرات لم تكن جذرية .
2- إذا كان دور وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية ذا تأثير واضح في بنية المجتمع الثقافي والقيمي ، فلا شك في أن الأمر يتطلب دعمآ لدور الأسرة بحيث يمكنها من القيام بوظائفها التقليدية وبخاصة في مجال التنشئة الإجتماعية وإعداد أجيال مؤهلة فكريآ وثقافيآ ونفسيآ وإجتماعيآ ، لمواجهة تلك التحديات المستقبلية .
3- أن مواجهة تلك التحديات الإقتصادية والثقافية والتقنية للعولمة ، تتطلب التنسيق بين المؤسسات المختلفة ، والتي تشترك مع الأسرة في عملية التنشئة الإجتماعية ، من اجل خلق جيل واع ثقافيآ وفكريآ وإجتماعيآ ، يستطيع أن يتعايش مع تلك التطورات القادمة ، مع الإحتفاظ بهويته وبخصوصيته الثقافية التي كانت وما تزال ذات تأثير واضح في تشكيل وعيه وكيانه الإجتماعي .
4- لابد من مراجعة شاملة لمفهوم الأسرة والإتجاهات النظرية المختلفة التي تتناسب وفهم طبيعة الأسرة الإماراتية ، في ظل الظروف والمتغيرات الجديدة التي يمر بها العالم بصفة عامة ومجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة بصفة خاصة .
5- ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل لابد من مراجعة للقيم والعادات والتقاليد وكيفية المحافظة عليها في ظل نظام أسري يتسم بالترابط والتماسك ، وتدعيم جوانب التفاعل في ظل المتغيرات الحديثة التي أصبحت تضرب بجذورها في دول العالم النامي من نظم وأشكال أسرية جديدة – المعاشرة من دون زواج ، الأساليب الحديثة في إنجاب الأطفال – وغيرها من متغيرات عالمية جديدة ، اخذت تهدد القيم الأسرية في الدول النامية .
6- ولا بد من اخذ التغيرات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية التي تعكسها العولمة في الوقت الراهن ، من وضعها في الإعتبار عند صياغة إستراتيجية تنموية يكون هدفها الأساسي ، المحافظة على النظام الأسري بما يتفق والقيم الدينية من جانب ، والخصوصية المجتمعية من جانب آخر ، وذلك من أجل المحافظة على المجتمع والوقوف ضد الإنعكاسات السلبية للعولمة .
يجب علينا جميعآ وعلى كل منّا ، تشجيع الإضطلاع بتنوعه الخاص وإدراك هويته بوصفها : [ حصيلة إنتماءاته المختلفة ] – أمين معلوف – بدلآ من إختزالها إلى إنتماء واحد ُينَصَب عُلويآ وأداة إستعباد وأداة حرب أحيانآ . ويجب على كل الذين لاتلتقي ثقافتهم الأصلية بثقافة المجتمع الذي يعيشون فيه ، أن يتمكنوا من الإضطلاع بإنتمائهم المزدوج دون الكثير من التمزقات ، والحفاظ على إنتمائهم إلى ثقافتهم الأصلية ، وألا يشعروا أنهم مُجبَرون على إخفائها كمرض مخجل ، والإنفتاح بالتوازي على ثقافة البلد المضيف .
==============
مراجع :
1- الثقافة القومية في عصر العولمة - تركي الحمد .
2- هذا التعريف هو حصيلة آراء وتعاريف متقاربة المضمون لدى :
تايلور – فرانز بواز – تعريف اليونيسكو 1982 – مالك بن نبي – الجابري ..
3- تجديد الفكر العربي - زكي نجيب محمود .
4- في الهوية الوطنية - إفتتاحية صحيفة الخليج الإماراتية : 7/1/2008 .
5- عماد فوزي الشعيبي - صحيفة الحياة : 5/11/1992 .
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى